الاثنين، 6 مايو 2019

سلسلة خبرات السفر: الأردن

أكثر ما أحببته في الأردن هو شعبها؛ هذا الشعب مميز لأن لديه تقبل، واحترام، وحب للأخر علي عكس الدول المحيطة به. الأردن بها تعددية كبيرة فشعبها يتألف من خمسة ملايين من الأردنيين، والفلسطينيين، ومليون ونصف لاجيء عراقي، ومليون ونصف لاجيء سوري علاوة علي مليون مصري يعملون هناك، ومؤخرًا يعمل بها عدد كبير من الأافارقة، والأسيويين. ورغم أن هذا التعدد موجود كذلك في دول أخري عربية مثل لبنان أو الإمارات وغير عربية مثل فرنسا، والولايات المتحدة إلا أن ما يميز الأردن هو وجود تقبل، واحترام للأخر كبير هناك. فلا يوجد فرق كبير بين أماكن سكني الأردنيين، وأماكن سكني اللاجئين والعاملين من دول أخري كما أنه لا يلحظ فرق كبير في مستوي معيشة الأردنيين عن غيرهم من الشعوب في الأردن. كذلك فلا يوجد رفض لأي شكل للملبس لأي شخص داخل الأردن من الأكثر عري حتي النقاب. ولا يتصف الشعب الأردني بالتطفل علي الغير بل يراعي المساحة الشخصية للأفراد. ومع ذلك فشعب الأردن ليس شعبًا متغربًا بل إنه يتصف بالصفات العربية الأصيلة خاصة الكرم، والنبل، وحسن الضيافة، واحترام الكبير. والأردن هي المكان الوحيد الذي سافرته حتي الاّن غير كينيا الذي لاقت أمي فيه احترامًا خاصًا لكبر سنها. والأردنيون يعشقون المصريين، ويقدرون جدًا الميراث الفني المصري، ويعامل المصريون معاملة تمييزية في الأسعار بالأردن عن غيرهم من الشعوب.
            الأردن محاطة بمجموعة من أكثر الأماكن صراعًا في العالم؛ فهي تتشارك الحدود مع العراق، والسعودية، وإسرائيل، وسوريا، وتأثرت دائمًا بكل الأزمات السياسية، والإنسانية التي نشبت في هذه المناطق ولكن رغم ذلك نجحت الأردن في التعامل مع اللاجئين الوافدين عليها من كل هذه المناطق، ومع كل الأزمات المحيطة بها مع حفاظها علي أمانها السياسي، والاجتماعي؛ فيشعر الفرد في الأردن بأمان من التعرض لأي نوع من الجرائم.
            صور العائلة المالكة، وأسماء أفرادها منتشرة بكل مكان حتي المطاعم، والفنادق. العملة الأردنية قوية للغاية وتفوق قوتها الجنيه الاسترليني فهي تساوي أربعة وعشرون جنيهًا مصريًا لكن قوتها الشرائية ضعيفة، وتكاد تساوي أربع جنيهات فقط، وعمان ضمن أغلي مدن العالم، ورغم شهرة باريس كواحدة من أغلي مدن العالم فعمان ليست أقل غلاءًا من باريس! وما يسهل الضغط الاقتصادي الصعب علي الشعب هو توفير رعاية صحية، وتعليم بجودة مرتفعة لكل أفراد الشعب مجانًا من قبل الدولة. ومن الغريب في الأردن أن شهرة استخدام البطاقات الائتمانية قليلة، والتعامل أغلبه نقدي. 
           الفنون، والحرف اليدوية تحتل مكانة خاصة في الأردن، وهي مبهرة في جمالها خاصة فن الفسيفساء، وفنون التطريز الأردني، وفن الخزف، والسيراميك، والصدف. والأردنيون يحبون الجمال والأناقة، ويقدرونها. وأسعار المنتجات الحرفية خاصة الفسيفساء والصدف مرتفعة بشكل خيالي فيمكن بسهولة إنفاق ما يوازي 20000 جنيه مصري علي قطعتي فسيفساء أو صدف متوسطتان في الحجم! 
         الأردن غنية جدًا تراثيًا، وسياحيًا؛ فبها مكان تعميد المسيح من قبل يوحنا المعمدان "المغطس"، وهو نقطة حج مسيحي مهمة لكن للأسف فمياه نهر الأردن التي تعمد فيها المسيح تجف بسبب استنزاف إسرائيل لها. وبالأردن كذلك كنائس تاريخية مهمة، ومقامات كثيرة للأولياء، وبها أماكن دفن كثير من الأنبياء، وبها مدينة رومانية كاملة هي مدينة جرش الأثرية. وطبيعة الأردن خلابة خاصة في منطقة عجلون. وأشهر معلم سياحي علي الإطلاق في الأردن هو البتراء، وهي عاصمة النبطيين، والذين كانوا من أهم الشعوب العربية التي أتقنت الهندسة، والري، والتجارة، ونحت الجبال! وكثير من أثار النبطيين مازالت حية وتسلب الوجدان في مدينة البتراء. والبحر الميت هو معلم أخر مميز في الأردن شديد الجمال، وبها نسبة ملوحة من الأعلي عالميًا، وطينه يعالج البشرة. 
         هناك في الأردن أماكن قديمة ومناطق حديثة أسست في السنوات العشرة الأخيرة. وقد كهرت بشدة المناطق الجديدة التي تشبه التجمع في مصر، وتمتليء بالمباني العالية الزجاجية. وتخسر الأردن كثيرًا من طبيعتها الخلابة مع الزحف العمراني علي الخضار. وهناك كثير من العقارات المعروضة للبيع في الأردن، وعقلية المقاول تغزو الأردن تدريجيًا مثلما غزت مصر ولكن ما يحسب للأردن أنها فرضت قانون بناء موحد يفرض أن تكون كسوة المباني كلها من حجر الأردن الأبيض، وهذا حافظ علي رونقها، وجمالها. وأجمل المباني، والقصور الحديثة التي رأيتها موجودة بالأردن؛ فهذا الشعب يعشق الجمال ورونق البيت فعلاً.

الأربعاء، 19 ديسمبر 2018

سلسلة خبرات السفر- الإمارات- أبو ظبي

الإمارات- أبو ظبي

        الإمارات نموذج تطلع له دول كثيرة وتنظر له بحسد وتحاول تقليده حتي وإن كانت طبيعتها الحضارية أكثر تعقيدا وثراءا منه. لم أكن في البداية أرغب في زيارة الإمارات لكنني غيرت رأي رغبة مني في معرفة هذه الظاهرة عن قرب أكثر وقبل أن تتاح لي فرصة اختيار زيارتها، رمتني الأقدار إليها؛ فقدت تأخرت طائرتي لكينيا في الإقلاع لساعتين بسبب عطل حاسوبها، ولم ألحق الترانزيت، واضطررت للمبيت ليلة في أبو ظبي

        لم أضيع الفرصة، وبمجرد أن وضعت حقائبي خرجت توا ولففت أبو ظبي كلها بسيارات أجرة في ثلاثة ساعات؛ حيث مررت بقلعة الإمارات، والأبراج الشهيرة فيها، ومول منظمة التجارة العالمية وأهم وأجمل معالمها المريحة للنفس جامع الشيخ زايد الكبير.

          ونموذج الإمارات نموذج مميز؛ فهي مجتمع مختلط للغاية، ونسبة الإماراتيين فيه أقلية لكنهم يتمتعون بحقوق كاملة في تعليم عالمي مجاني، ونظام صحة مجاني مميز، ودعم للبطالة. والشعب الإماراتي اكتسب كثيرا من اختلاطه بالأجانب؛ فهو شعب يقدس المسافة الشخصية، ولا يعتدي عليها، ويحترم لدرجة مميزة الاختلافات الثقافية، ويعامل متحدي الإعلقة معاملة أكثر تحضرا حتي من بعض شعوب أوروبا وهو بارد مقارنة بالشعوب العربية الاخري.

           من الخارج تبدو الإمارات دولة رائعة؛ منظمة، وجميلة، ومتحضرة، ومنضبطة، وهي المركز التجاري العالمي، ومول العالم الكبير، ويوجد بها تعدد عرقي وديني واسع، وهي من أكثر البلدان احتراما للإنسان، وتحقيقا للأمان حيث لا يخشي علي شيء داخل الإمارات؛ لدرجة أن سائق الأجرة قد يترك حسابه ويعود إليك وهو يثق أنك لن تسرقه. لكن رغم كل هذا الجمال الخارجي توجد حقيقة يستحيل التغاضي عنها؛ وهي وضع كل فرد المحدد داخل الإمارات. فالهنود والاسيويون -ويكادون يكونون الأغلبية- هم القائمون بالأعمال الخدمية، والأفارقة يقومون بأعمال قيادة الأجرة، والعرق الأبيض سياح أو رؤوساء وخبراء أما الإماراتيون فيتمتعون بكل الحقوق ويعملون غالبا في الشرطة

             وملحوظة مهمة في الإمارات هي الإهتمام الشديدبالجودة المقدمة في كل الخدمات، والمنتجات، والأسعار المناسبة نسبيا للخدمات والمنتجات.

             الدولة الإماراتية دولة حكم شمولي، وهناك تقديس عام لشخصية الراحل العظيم الشيخ زايد، وهذا العام تحتفل الإمارات بالذكري المائة لمولده، وصوره في كل مكان، وهذا العام يسمي ب"عام الشيخ زايد". 


             التخطيط لعمراني للإمارات معتمد علي فكرة محورية المركز التجاري سواءا في الأبراج التجارية أو المطار أو الطائرة. وهو ليس تخطيطا معماريا صديقا لفكرة المجتمع أو الشارع أو الإنسان. فصحيح أن الشوارع واسعة ونظيفة ومنظمة ولا يوجد بها أي تكدس مروري ومريحة عصبيا إلا أنها بوسعها غير مصممة للسير فيها. ولا توجد فكرة البقالة أو الصيدلية بجوارك فكل شيء في المركز التجاري. ونسخ مصر لهذا النموذج في التجمع كان خطيئة كبيرة لموروثها الحضاري.

الاثنين، 17 ديسمبر 2018

سلسلة خبرات السفر- كينيا

كينيا

         لاحظت داخلي فراغ دائم وقلق وجودي في كل أوروبي سافرته. لاحظت داخلي شعور بغياب المعني؛ شعور أنها حياة سعيدة لكن فارغة ولا تستطيع مليء روحي. برودة؛ كل شيء نظيف ومنظم وبارد وكل شيء داخل قالبه المخصص المصمم له، ولا شيء يتخطي حدوده. كنت أتمزق بين توقي لحضن، ودفء ومعني، وإحساس بالقيمة وبين خوف شديد من العودة لالام بلد لا يوجد فيها معن للعدل أو الحرية أو الإنسانية أو حقي علي جسدي.

        وجدت في كينيا شيئا اخر مختلف تماما وجدت فيها احترام جسدي وحرية ملابسي وأنوثتي ومسافتي الشخصية وفي نفس الوقت دفء وحضن وابتسامة نقية حقيقية. كينيا ليست بلدا غربيا باردا بل هي بلد منغرس فيه قيم احترام الكبير وتقديس الأمهات بالذات فالكل هنا يسأل عن أمي وينحني لها ويقول لها: "ماما". الشعب هنا طيب وحنون، وقريب، ويفتح حوارا مع الغرباء بسهولة ويبتسم في وجوههم، ويسأل عن أحوالهم بلطف

          رغم أن البلد مشهور بالجريمة خاصة السرقة والخطف إلا أن الشعب بوجه عام ليس شعبا مفتقر للخلق أو التربية بل هو بوجه عام شعب مهذب في تعاملاته وطباعه وبشوش. ولا يلجأ لطرق استغلال السياح مثل رفع الأسعار عليهم كثيرا. والذي صدمني أن الشعب يعمل بجد وخدوم جدا ومخلص ولا يتوقع أبدا بقشيشا مثل المصريين!
  
             وضع المرأة في كينيا يحمل احتراما كبيرا. فهناك حرية ملبس كبيرة للنساء والثقافة هنا ارتداء تنورات وأثواب قصيرة ضيقة جدا وتفصل بشكل أساسي المؤخرة، والنساء يرتدين ما يشأن بحرية من ما يظهر البطن حتي النقاب، والدولة نسبيا فقيرة وفيها غياب فج للعدالة الاجتماعية لكن لا يوجد بها تحرش ولا معاكسة! فدعونا نلطم في صمت.

            والنساء يشاركن الرجال في كل الأعمال؛ وضابطات الشرطة والجيش كثيرات ومنتشرات. وأغلب الوقت أقابل نساء ترتدين ملابس عمل رسمية في الشوارع. ومن المميز أنه رغم أن الشعب دافيء ويسأل عن الاخرين ويعقد الصدافات معهم بسرعة إلا أنه يحترم حدود الاخر ويحترم التعددية، ولا يتدخل في ملابس أحد ولا يراقب سلوكيات النساء والرجال ويمسك لهم الكرباج. والنساء تظهر أنوثتها وجمالها الفاتن في مختلغ الملابس الملونة بألوان فاقعة وفي تسريحات الشعر المختلفة جدا والمميزة وألوان الشعر الفاقعة مثل الملابس كالأزرق! ورغم ذلك فلا يشيع هنا مساحيق التجميل فالنساء جميلات بطبيعتهن وروحهن.

             ويحافظ المجتمع إلي حد كبير علي هويته الثقافية الأفريقية من خلال الحفاظ علي أسلوب الملبس الأفريقي وانتشار أعمال كادت تنقرض من دول كثيرة مثل ملمع الأحذية والترزي. ومن خلال الأنشطة الثقافية مثل سوق مساي مارا لبيع المنتجات الحرف التقليدية لقبيلة المساي الشهيرة ومثل مشوع بوماس كينيا لحفظ الرقصات المميزة للقباىل ال ٤٢ المختلفة في كينيا

               وعلاقة الشعب بالطبيعة مقدسة فهناك مشروعات مثل دار أيتام الفيلة لإنقاذ الفيلة وود القرن الذين يفقدون أمهاتهم ويهددون بالموت ومثل مركز الزرافات لرعاية الزرافات في بيئتها الطبيعية ومثل المحميات الطبيعية الضخمة. و قد سبقوا أوروبا في هجر البلاستيك وباتوا يستخدمون أكياس القماش في كل مكان فحتي البائعون الذين يفرشون في الشارع لا يستخدمون إلا أكياس القماش. والحيوانات منتشرة في كل مكان خاصة النسانيس التي تري علي الطريق السريع بين المدن.

         وهذا الشعب مخلص ويتذكر كل من أحسن له، وأقام متحفا لكارن بليكسن الأديبة الدنماركية التي أحسنت للشعب في زمن العبودية و التي كتبت الكناب الشهير "خارج أفريقيا". وأعطي جناحا في المتحف القومي لأعمال جوي أدمسون التي وهبت حياتها لرسم نباتات وشعوب كينيا.

       الفن الكيني مميز للغاية وثري ومتمرد وبلا قيود، وهو بالنسبة إلي الفن الأكثر تعبيرا عن أكثر شعوبالعالما للحياة. الافارقة يعشقون الحياة؛ يعشقون الألوان، المرح، المزاح، المشاعر، الجنس، الجمال، الطبيعة، البساطة، الحركة، الطعام، والقوة. وكل هذه المعاني ينبض بها فنهم الثري. فنهم من الأكثر ثراءا علي الاطلاق ومع ذلك لا يأخذ حقه. أنفقت ثروة علي قطعهم الفنية ولست نادمة.

        يحبون الإنجاب كثيرا وأطفالهم مزعجون وليسوا ملتزمين كالطفل الأوروبي، بلدهم مفتقر للنظام والبنية التحتية في كل شيء. إنهم يكرهون النظام إلا أنهم يقدسون النظام السياسي ومازال داخلهم تقديس لقادتهم موروث من أفكارهم عن زعماء القبائل إلا أنهم يسيرون نحو الديمقراطية فرؤساءهم لا يبقون حتي الموت ولديهم مفهوم التسليم الديمقراطي للسلطة


        ترك المستعمر خلفه بلدا يؤذيها بشدة الفجوة العميقة بين مكانه ومكان شعبها، وبقي الأجانب والحكام يقيمون في مناطق ثرية رائعة الجما، وغالبية الشعب يعاني من الفقر. وترك خلفه أيضا فكر المباني العملاقة والتصنيع في البلد الزراعي العظيم. لكن ما تركه هو قبح يتسع ويهدد الجمال؛ كتل قذرة ضخمة تهدد الخضار.