( هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة ).
كنت أري و أنا في الحضانة ، الطلاب الأكبر
سنًا يحييون العلم ، كنت أحيي العلم وراءهم بكل حماسة ، و أنظر إليهم في غبطة. كنت
أحلم أن أكبر ذات يوم و أحيي العلم مثلهم و يحيي ورائي الجميع. لا استطيع أن أصف
كيف كنت أنظر إليهم ، كيف كنت أشعر تجاههم ، كانوا بالنسبة إليّ شيئًا كبيرًا جدًا
، قادة أصبو أن أكبر و أصير مثلهم . كانت نظرتي
إليهم كنظرة شابة دخلت كلية علوم حديثًا متحمسة ، مشتعلة ، و تنظر من بعيد
جدًا إلي أحمد زويل ، و لكني علي الأقل كنت أري حلمي أقرب قليلاً.
مضت
سنون الحضانة و دخلت المدرسة الابتدائية ،
و ظللت أنظر بغبطة إلي طلاب الصف الخامس و السادس الذين يحييون العلم ، و أحيي أنا
خلفهم. كنت اّنذاك كعضوة في حركة تحرير وطنية تنظر باحترام للقادة و تحلم أن تكون
ذات يومٍ من قادة الحركة الوطنية مثلهم. مضت سنون المدرسة الابتدائية و وجدتني طالبة في العام الأخير بها
،السادس و تذكرت حلمي مذ كنت في الرابعة أن أحيي العلم ،حلم يكبر معي حتي و إن
نسيته لسنوات. ذهبت إلي مدرسة مسؤولة عن تحية العلم ، قالت لي أن أذهب إلي مدرس
التربية الرياضية ، ذهبت إليه ، رفض حلمي.
قال لي
أنني فتاة و يجب أن يحيي العلم فتي ، انتبهت إلي حقيقة لم أكن قد أدركتها جيدًا
بعد ،دائمًا كان من يحيي العلم فتي. قلت له أنني استطيع أن أحيي العلم ، و أنني
لست أقل من الفتيان ،قلت له أن مدارس الفتيات لا يوجد بها فتيان ، و مؤكد من تحيي
العلم فتاة. قال لي أن الفتيان أقوي ، و أن الفتاة لا تحيي العلم إلا إن لم يكن
هناك فتي ،قلت له أننا أقوي ( كنت أعني كيدنا) ، أظنه فهمني ؛لأنه رد عليّ أننا
أقوي في أشياء أخري.
كنت ضعيفة ، استسلمت ، و لكني لم اقتنع و اشتعلت
غضبًا. أتذكر يومها أن صديقة لي في المدرسة قالت لي شيئًا فهمته بمعني أننا لا يجب
أن نحيي العلم ، هذا دور الفتيان. لم أنسي هذه الجملة التي زادت غضبي قط ، لم أنسي
هذا الموقف في حياتي أبدًا.
مضي
العام و دخلت المدرسة الإعدادية . هناك كان نظام المدرسة مختلفًا كثيرًا ،كان
سيئًا جدًا ، و لأول مرة في حياتي أواجه التعليم بنسخته المصرية الحقيقية . و هناك
عرفت لأول مرة لماذا لا يتشرب النشء حب الوطن ،و لماذا يكبرون بلا أي انتماء له ،
عرفت كيف أن تعليم الأطفال يسلبهم حب الوطن بدلاً من أن يزرعه داخلهم ، و لكن هذا
كله جزء من قصة أخري. لكن المهم أنني رأيت كيف أننا بعد أول أسبوع قضيناه في فرع
المدرسة الإعدادية لم يعد فينا أحد يحيي العلم بحماسة ، خفت صوتنا جميعًا.
في تلك
اللحظة وجدتني أمام نفسي ، أفكر وحدي ، و اّخذ قراري بأن أحيي العلم بأعلي صوتٍ
وحدي ، حتي و إن خفتت كل الأصوات ؛لأنها بلادي و أنا أحبها ،انتمي لها ، ويجب أن
أحيي علمها ؛لأن تحيتي لعلمها رمز لانتمائي لها . كنت في البداية قد تأثرت و أخفضت
صوتي و لكني عدت أرفعه من جديد ، أرفعه لأعلي درجاته ، أرفعه فوق صوت الجميع ،
أرفعه ليصل إلي عنان السماء ، أرفعه ليصل إلي بلادي.
حينها
وجدتني وحدي أحيي العلم ، و كانت بداية طريقٍ طويلٍ سأتعلم أن أسلكه وحدي ، كان
ذلك القرار من أوائل القرارات التي أتخذتها وحدي ، صممت عليها ؛لأني أؤمن بها حتي
و إن لم يؤمن بها أحد ، و لم يفعلها أحد. أتذكر أنني نلت سخرية كبيرة من كل من في
المدرسة و شهرة عارمة بالطبع و صمدت في وجه الاثنتين . و لكني أتذكر أيضًا أنني
قلت لنفسي حينها ،أنني حرمت من أن أحيي علم بلادي؛ لأني فتاة ، و ها أنا ذا وحدي
أحيي علمها بعد أن خفت بل ربما بكم صوت كل الفتيان و الفتيات.
ذات صباحٍ في مدرستي الإعدادية طلبت أن أحيي
العلم ، و لدهشتي قوبل طلبي الموافقة. وقفت متوترة ، و نظرت إلي العلم فوقي عالٍ و
أنا صغيرة جدًا أمام ساريه ، أتذكر تلك اللحظة الاّن جيدًا ،أتذكر أنني لأول مرة
أشعر أنني قريبة إلي العلم هكذا ، أول مرة أقف أمامه مباشرة و أنا أحييه.
أظن نبضات
قلبي باتت سريعة و أنا أنظر فوقي للعلم و استعد لتحيته ، نطقت :" تحيا جمهورية
مصر العربية" بأعلي صوتي ، بصوتٍ قوي و عالٍ و حيا خلفي الجميع .أعدتها ثلاث
مرات ، ثم دخلت إلي الصف ثانية. أذكر أنه في ذلك اليوم كنت أتحدث إلي فتاة و ربما
قلت لها أنني حييت العلم ، و علمت أن صوتي كان قويًا جدًا وأن كثيرين ظنوا أنني
فتي.
اشتهرت
بسرعة جدًا في المدرسة الإعدادية لأسباب كثيرة علي رأسها طبعًا تحيتي للعلم القوية
سواًء و أنا من تحييه (لم أفعل ذلك كثيرًا ؛لأنني أرضاني أنني انتصرت و حييته مرة)
، أو و أنا أحييه خلف فتيانٍ اّخرين. و كما قلت من قبل نلت ثمنًا لذلك، سخرية
الجميع مني و أيضًا معرفة الجميع بي.
في المرحلة الثانوية ذهبت إلي مدرسة مختلفة تمامًا
في كل شيء عن مدرستي الابتدائية و امتدادها الفاسد الإعدادي. في أول يومٍ في
مدرستي الثانوية ،لم أكن أعرف أحدًا سوي زميلة واحدة لي من المرحلة الابتدائية لم
تكن علاقتي بها رائعة ، و زميل اّخر لم أكن أعرف عنه شيئًا إلا أنه كان صديقًا
لفتي ليست معرقفتي به جيدة في مدرستي القديمة. كنت قلقة؛لأنها المرة الأولي التي
أدخل فيها مدرسة لا أعرفها ؛و لكني لم أكن مرتبكة. أذكر أن مدرس تربية رياضية طلب من طالبة
في المدرسة أن تحيي العلم و لكنها رفضت ، و أخذ يحاول إقناع الطلاب بلا فائدة و قلت
أنا لمدرسة تقف أمام صفي أن أحيي العلم ، الغريب بالنسبة إليَ في ذلك الوقت أنها
دهشت من طلبي ، و سأعرف لاحقًا أن سر دهشتها أن أحدًا في المدرسة لا يرغب في تحية
العلم و لا حتي في نطق كلماتها ، و أن المدرسين يتعبون جدًا في إقناع الطلاب أو
الطالبات بتحية العلم.
حييت
العلم بصوتٍ عالٍ ، استغربني طبعًا الجميع ، و تكرر مسلسل السخرية و الشهرة مجددًا
، و لكن هذه المرة كان الأمر أعسر ، فقد وجدت الطلاب يسخرون من تحية العلم ذاتها ،
و يجعلونها شيئًا يتندرون عليه و يستهزئون به. و أحد الطلاب ليستفزني كتبت سبة
قذرة علي السبورة عن مصر ، و حينها ذهبت إلي وكيلة المدرسة و أخبرتها بما فعل، و
اعتذر لها.
مضت
سنون الثانوية أيضًا ،و انتهت القصة الطويلة المتكررة ، و لكن هذه القصة علمتني
درسًا ، غرسته داخلي ، جعلتني أؤمن بها يقينًا . الانتماء لهذا الوطن ليس حكرًا
علي ذكوره ، بل ليس حكرًا لأحدٍ فيه أيًا كان.الانتماء لهذا الوطن يكمن داخل من
يحبه /تحبه حقًا مهما اختلفت الهويات الأخري ، مهما اختلف الجنس أو الدين أو
الأفكار أو المباديء أو حتي الأخلاق. و لهذا السبب كل من هو/هي يملك/تملك حقًا في
هذه الأرض ؛لأنه/ا عاش/ت بها،ولد/ت بها ،كل من أحبها /أحبتها بصدق ،له/ا الحق فيها
كاملاً ، الحق في الدفاع عنها ، الحق في القتال لأجلها ، الحق في كل ما لغيره/ا
فيها حق فيه.
حقي
كمصرية ،أن أحيا في هذا الوطن حرة ،حقي أن أعلو بصوتي أهتف لبلادي، حقي أن أحلم لأجل بلادي ، حقي أن
أكتب لأجل بلادي ، حقي أن أعمل لأجل بلادي ، حقي أن أقاتل لأجل حق كل من
ينتمي/تنتمي لبلادي ، حقي أن أقاتل لأجل كل مبدأ أو معتقد أو فكرة أؤمن بها في
بلادي حتي و إن اصطدمت بكثيرٍ من ما يؤمن به غيري فيها ، حقي أن أتولي فيها كل
منصب يتولاه غيري ، و حقي أن أحارب لأجلها ضد أعدائها ، حقي أن أكون جزًء من
جيشها.
إنني
مصرية ، و سأكررها دائمًا ، سأصرخ بها أمام الجميع ، سأسمع بها الصم صوتي ، وسأري
بها العمي حقي . إنني مصرية ،و هذه هي شرعية حريتي ،شرعية حقي ،شرعيتي أنا.