( هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).
العقلية الأمنية جزء من نسيجنا الاجتماعي
الثقافي الذي انعكس تاريخيًا علي رؤيتنا لدور الدولة و الذي أدي في صورته الأشد
تطرفًا للدكتاتورية السياسية و للدولة الأمنية.
نادرًا ما نفكر في العقلية الأمنية بعيدًا عن
نقد الديكتاتورية العسكرية التي عشنا فيها عقودًا طويلة بل مازلنا نعيش فيها
ليومنا هذا و لا أحد يعلم متي يأتي اليوم الذي نتحرر فيه منها. لكن حقيقة هذه
العقلية الأمنية تكمن في وجداننا الشعبي. نحن كمجتمع منغرس داخلنا في لاوعينا
الجمعي الإيمان الراسخ بالحل الأمني. نحن نؤمن أن الحل لكل التحديات و الأزمات
التي قد نواجهها هو "المنع". القمع بالنسبة لنا ليس مجرد لذة ممارسة
السلطة ، و التجبر علي الأضعف بل هو كذلك أداة نؤمن أنها وحدها فعالة لإفناء كل ما
نراه نحن خاطئًا.
النماذج
علي ذلك موجودة في كل تفصيلة صغيرة من حياتنا الاجتماعية و الثقافية نراها حولنا.
الأب و الأم غالبًا يعملان علي منع الطفل من فعل ما يرونه خطأ بتخويف الطفل من
العقوبة أيًا كانت. نادرًا في مجتمعنا ما يعمل الأبوان علي مخاطبة الطفل و إقناعه بأفكارهما.
يعملان غالبًا علي تخويفه من العقوبة و علي المستوي الديني تخويفه من عذاب النار. المدرس/ة
في أغلب مدارسنا يستخدم / تستخدم التخويف طريقة لإجبار الطالب/ة للالتزام بقواعد
المدرسة و أداء الواجبات الدراسية، التخويف لا يعني به الضرب فقط ، حتي مجرد
التهديد بإنقاص الدرجات هو صورة من صور التخويف. نادرًا ما يعمل المدرس/ة علي
تحبيب الطالب/ة في المادة و الاستمتاع بالدراسة.
المجتمع في
تعامله مع قضية الجنس –و التي تشكل كابوسه و شاغله الشاغل- يستخدم التخويف لفرض
أفكاره علي الأفراد (خاصة المرأة) . المجتمع يلجأ للمنع و الحجب لضمان فرض هذه
الأفكار ، منع الاختلاط و فرض زي محدد علي
المرأة و التركيز علي ترديد قصص المصائب التي نتجت عن الجنس خارج الحدود التي
يقرها المجتمع حتي في الأدب و الفن و تقديس غشاء البكارة ، هذه كلها أنواع من التخويف
و المنع و الحجب الذين يعتبرون أدوات العقلية الأمنية.
نماذج أخري
تظهر في فكرة الرقابة. الرقابة تعمل علي قص بل و منع أفلام و روايات و كتب و رسوم
لأنها تعرض صورًا أو أفكارًا سياسية أو اجتماعية أو دينية مرفوضة. و الرقابة تمارس
من كل سلطة ، من ممثلي الدولة علي الإنتاج الثقافي ، و من الأهل علي أبنائهم . هذه
الرقابة مهمتها هي حماية المجتمع و الدين و السياسة بالطريقة الأمنية"
القمع" و بأداتها "المنع".
التشريع
لدينا يظهر فيه إيماننا الراسخ النابع من عقليتنا الأمنية أن كل شيء يحل بالتخويف
من العقوبة. فنحن كلما حدثت مجموعة جرائم جديدة نسرع للضغط بتشديد العقوبات عليها.
مثلاً عندما أفقنا من سباتنا الطويل علي إدراك أن جرائم الاغتصاب بلغت أرقامًا
مرعبة أول اقتراح للمواجهة كان تغليظ عقوبة الاغتصاب للإعدام.
ثم تأتي
السياسة و طريقة حكم الدولة الأمنية لتمثل النموذج الأكثر وضوحًا لنا عن تجليات
العقلية الأمنية. فالحكم الديكتاتوري العسكري لنا تاريخيًا اعتمد علي استخدام
كميات مهولة مضحكة من رجال الأمن و المجندين للسيطرةعلي كل منطقة تظن السلطة أنها
قد تشكل بؤرة قلق مثل الجامعة أو أي منشأة تقصدها المظاهرات. التعامل الأمني مع المظاهرات
، الاعتقالات العشوائية ، الرقابة علي
الفن ، الهجمة علي الصحفيين و المثقفين ،
زيادة القوي الأمنية في مناطق بعينها في أوقات القلق –كالانتخابات أو التظاهرات أوالتفجيرات-،
إقامة الجدر الأسمنتية حول المنشأت الحيوية ، إغلاق شوارع و ميادين رئيسية ،و
تشديد العقوبات علي ما يسمي "الجرائم السياسية". كل هذه وغيرها مظاهر
ل"المنع" كأداة قمع تعكس العقلية الأمنية في الدولة الديكتاتورية
العسكرية الأمنية .
بعد استعراض كل هذه النماذج لانعكاسات العقلية
الأمنية علي كافة جوانب حياتنا الاجتماعية و السياسية و الثقافية ، يجب أن نفكر هل
أدوات العقلية الأمنية حقًا مجدية ؟ هل المنع و القمع قادران علي تحقيق الأمن ؟ هل
هما كفيلان بتحقيق الأغراض الكامنة وراءهم ؟
لنعود
لتحليل هذه النماذج بهدوء،
أولا
نموذج الأبوين و الأبناء، هل يكفل التخويف من العقوبة ضمان امتثال الأبناء أو
فعلهم لما يراه الأبوان صوابًا ؟ تعتمد إجابة هذا السؤال علي تجربة كل شخص
العائلية، لكن يمكن القول أنها غالبًا طريقة غير مجدية ؛لأن الأبناء بدلاً من
الامتثال للأهل غالبًا يفعلون ما يريدونه سرًا و يتعلمون بذلك الكذب و النفاق و
الجبن و عدم المواجهة علاوة علي كل الأخطاء الأخري التي يفعلونها سرًا. التخويف من
عذاب النار أحيانًا يؤدي بالأطفال لكراهية الدين منذ الصغر ، و لكن حتي و إن لم
يكرهوا الدين فيحتمل أن يتحول كل تدينهم إلي مجرد خوف من العذاب لا إيمان حقيقي
بالدين و لا حب للإله. النموذج الثاني للمدرس/ة أكثر وضوحًا ، فنحن نعرف جيدًا أي
تعليم يؤدي إليه التخويف ، نحن جربنا ذلك التعليم و نعرف أنه لا يجدي ؛لأننا لا
نحب ما ندرس ، لا نرغب حقيقة في التعلم ، لا نتعطش للمزيد من العلم بل مجرد نفعل
الواجب خوفًا من المدرس/ة أو الأبوين. الغرض الحقيقي لمنظومة التعليم ليس تعلم
أشياء محددة مطلوبة و لكن إشعال شغف الطالب/ة
للمزيد ، و إعطاء الطالب/ة فرصة اختيار ما يحب/ تحب دراسته و تعلمه مستقبلاً.
تخويف المدرس/ة للتلاميذ يؤدي إلي التضحية بالهدف الرئيسي للتعليم لتحقيق نتائج
تافهة قريبة.
نموذج
تعامل المجتمع مع الجنس نموذج صارخ نكتم عليه دائمًا. صحيح أننا نمنع الاختلاط
بطرق كثيرة، صحيح أننا نغطي جسد المرأة قهرًا ، صحيح أننا نرعب الفتيات قبل غيرهن من
الجنس بأساطير العذرية ، صحيح أننا نرعب الشباب بالحديث عن عذاب كبيرة الزنا ، لكن
الحقيقة التي نأبي رؤيتها وهي كرة لهب أمام أعيننا أننا فاشلون تمامًا في إيقاف
الزنا بصوره المختلفة. لدينا اّلاف قضايا إثبات النسب ، لدينا قري بأكملها أسواق لزواج
الصيف للبنات، لدينا أرقام مرعبة لجرائم الاغتصاب و التي ندرك جيدًا أن غالبيتها
الكاسحة لا يبلغ عنها أصلاً. لدينا عيادات متخصصة في الإجهاض و ترقيع غشاء
البكارة.
الرقابة
أجدها نموذجًا من اليسير جدًا إظهار عجزه التام. الرقابة لم تستطع فعليًا منع أي
فيلم أو كتاب أو رواية أو فكرة من الوصول إلي الجمهور ، و اليوم مع الشبكة
العنكبوتية هذا العجز تفاقم أكثر من أي وقتٍ مضي. الرقابة في كثير من الأوقات كان
مردودها عكسيًا فقد ساعدت في الترويج لكثير من الأعمال الفنية أكثر بمنعها. غالبًا
الجمهور يستطيع الوصول لهذه الأعمال عن طريق مشاهدتها أو قرأتها علي الشبكة
العنكبوتية و فيما مضي عن طريق الحصول عليها من دولة أخري.
التشريع
أثبت عجزه مهما بلغت قسوته في إيقاف الجريمة أو حتي حدها. عقوبة الإعدام لجرائم
القتل مازالت موجودة في قوانيننا المصرية وعلي كثير من التهم ، لكن مازالت جرائم
القتل و الاغتصاب في تفاقم عام وراء الاّخر.
الدولة
الأمنية فشلها يتحدث عن نفسه. عجزت تلك الدولة عقودًا عن توفير الأمن للمواطن و
غدا ينجط من سيء لأسوأ. لكن حتي و إن افترضنا أنها لا تهدف أصلاً لأمن المواطن و
لكنها تهدف لأمن الأنظمة فإنها من هذه الزاوية أيضًا عاجزة. 25 يناير –بغض النظر
عن أي وجهة نظر سياسية ضدها أو معها- هي
نموذج لكيف يمكن في ساعات إسقاط الدولة الأمنية. لم تستطع أي دولة أمنية حتي في
أوج عنفوانها التحكم في الفن و الفكر الشعبي، فللغرابة كل من قمعتهم تلك الدولة
بقسوة صاروا الأقوي تأثيرًا في العقل الشعبي الثوري المصري و صاروا وقودًا لإشعال
الثورة مثل أحمد فؤاد نجم.
كل هذه
النماذج تثبت عجز المنع و القمع ، كلها تثبت أن العقلية الأمنية لا توصل للغايات.
و تجعلنا نشك ،و نفكر في بدائل أكثر فاعلية منها. بدلاً من المنع و القمع ، لماذا
لا نجرب الحرية و التحبيب ؟ لماذا لا نجرب الإقناع بدل التخويف ؟ لماذا لا نجرب
الحرية و العدالة بدل التأمين ؟