الخميس، 25 ديسمبر 2014

عندما يؤلم الحضن

(هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).

  أحيانًا تكون المباديء أنانية و كبرياء شريرين. أحيانًا تكون البطولة أكبر خطيئة. أحيانًا يكون العجز عن الصمت قمة الجحود.
  فيما مضي أخطأت و جرحت، و أنا أظن أنني الحق، و أنا أظن أنني الأعلي و من بجواري الدنيؤون. فيما مضي تمسكت بكريائي بمبادئي، و دفعت الثمن أني أجرمت في حق من أحبني.

  عندما فقدت من أحببت علمت أني أسير علي طريق ليست هي الحق. علمت أن المباديء أحيانًا محض كبرياء و أن التمسك بها قد يوصل لإجرام مقنع بظننا أننا الحق. أدركت أني لست مختلفة كثيرًا عن الإرهابي/ة الذي/ التي يظن/تظن أنه/ا علي حق، الفرق فقط في المبدأ و في طريقة الإجرام.

  مؤخرًا وصلتني رسالة شفهية من الأمن أمام أمي بأن أتوقف عن الكتابة التي تمثل خوضًا في مفاهيم و أفعال سياسية و اجتماعية مختلفة عن إرادة النظام و المجتمع المصري. حينها إنهرت عصبيًا بكيت و صرخت كثيرًا. لم أصرخ من قبل، لكنني حينها لم استطع أن أكتم صرخاتي. صرخت؛ لأنني لأول مرة أعرف معني أن أعجز عن كتمان ألم الذنب. صرخت؛ لأنني كرهت نفسي كما لم أكرهها قط.

  كرهتها؛ لأنها تؤذي. كرهتها؛ لأنها عاجزة عن ألا تصرخ. صرخاتها قلمي.  لا استطيع أن أخرس قلمي و لا أصرخ. كرهتها؛ لأنها تجرح أمي و ستجرحها أكثر و أكثر كل مدي. كرهتها؛ لأن أمي لا تستحق فتاة مثلي، لا تستحق فتاة لا تستطيع أن تؤثرها عن نفسها، عن ألمها، لا تستطيع أن تكتم صرختها، لا تستطيع أن تخرس قلمها، لأجل أن تحميها من الألم.

 تمنيت لو كانت ابنتها فتاة منافقة تستطيع أن تعيش حياتين و لا تواجه المجتمع. تمنيت أن تكون ابنتها فتاة بسيطة لا تهتم بالسياسة و لا بالمجتمع. تمنيت لو كانت ابنتها فتاة مستسلمة تقبل بالقمع، و لا تجد فيه ألمًا. تمنيت لو كانت ابنتها حتي مفتقرة للإنسانية تستطيع أن تري من حولها يتألمون و تصمت. تمنيت لو كانت ابنتها مريحة لا مؤلمة. تمنيت أن تكون أي فتاة ابنتها ما دامت لن تتسبب لها في الجرح مثلي.

و داخلي تمنيت أن تموت لترحم مني. إن مت أنا لن تستطيع أن تعيش دوني، بلا مبالغة قد تجن أو تنتحر. و إن ألقي القبض علي، لن تستطيع أن تعيش مع الفضيحة، و خاصة عندما يجرحها والدي و يقول لها أنها دللتني و فشلت في تربيتي؛ لأنني لم أعرف معني القمع الأبوي. و لن تستطيع أبدًا العيش و هي تعلم أنني في السجن. هي لا تتحمل بعدي. لا تتحمل أن أبقي خارج المنزل يومًا كاملاً من الصباح للمساء بسبب ظروف دراستي الجامعي و بعد جامعتي الجغرافي. لا تتحمل أن تبيت ليلتها بعيدة عن حضني حتي في غرفة مجاورة في ذات المنزل. لن تتحمل بعدي، و قد تموت بغيبوبة سكر. أنا فعلاً لا أبالغ.

لذلك أنا مجرمة، و قد أصير قاتلة في أي لحظة.  قد تموت أمي بسببي و بسبب عجزي عن الصمت. قد تموت؛ لأنني إنسانة. لذلك كرهت نفسي و كرهت كوني إنسانة. لذلك تمنيت لو لم أكن إنسانة، لو كنت مجرمة، أو حجر، أي شيء إلا إنسانة. تمنيت لو كنت أي شيء لا يجرحها.

لكنني عاجزة  عن ترك قلمي، أو الصمت عن الإجرام في حق من حولي. لا استطيع ألا أصرخ عندما يجرحني الظلم حولي، و يغوص الجرح عميقًا داخلي. أقسم أني عاجزة.

حضنها حتي يؤلمني. عندما بكيت و صرخت، لم أجد سوي حضنها أرتمي فيه.  داخلي كان صراع بين إحتياجي لحضنها، و إيلامه. حضنها اّلامني أكثر و أكثر؛ لأنها تعلم كم أؤذيها و أعذبها معي و مع ذلك تحبني، و لا تستطيع أن تراني أتعذب و لا تعطيني حنانها. حضنها زاد عذاب الذنب، زاد كراهيتي لنفسي. 

سأجرم، بل أجرم الاّن في حق من أحببت، و أحبتني بجنون، أجرم؛ لأنني إنسانة، و لأنني لا استطيع الصمت. لن تفيد حتي كلمة "سامحيني". لن يفيد أن أسألها الغفران لأني لست بوجهين أو  لأني إنسانة.
 

كيف يصير الدم يسيراً؟

(هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).

 يسهل علي اساتذة العلوم السياسية أن يبنوا نظريات تبدو عميقة و معقدة عن سيادة الدولة و احتكارها لاستعمال القوة، و ردعها للإرهاب. يسهل عليهم أن يبرروا قمع الأقليات و اضطهادها، و الترويج لأفكار فاشية مادامت تبدو ضامنة لحماية مفاهيم مثل "الدولة" و "الأمن العام" و "النظام العام" و "الكرامة الوطنية" و "السيادة". يسهل عليهم حتي الدفاع عن أعتي الجرائم بينما يتم التصفيق لهم و تبجيلهم و اعتبارهم المصدر الوحيد المعترف به للحقيقة في مجال السياسة "المصدر الأكاديمي".

و يسهل أكثر علي من يسمون "رجال الدولة" و "رجال السياسة" و "رجال الأمن" استخدام تبريرات اساتذة العلوم السياسية كغطاء فكري سياسي لجرائمهم. و يسهل عليهم الإيمان بأن المختلفين عنهم، و الذين يهددون سلطتهم "خونة" و يجوز التعامل معهم بكل صور الإجرام ضد إنسانيتهم لأجل حماية المفاهيم البراقة مثل "الوطن" و "الدولة" و "الأمن العام" و "النظام العام" و "السيادة".

يسهل عليهم جميعًا ذلك؛ لأنهم لا يتعاملون مع السياسة كحياة بشر. اساتذة السياسة كثير منهم لم يجربوا قط الحياة مع بشر ممن يصفون ب"مهددين لأمن الدولة" و "متحدين لسيادتها" و "إرهابيين". و "رجال الدولة" و "رجال السياسة" و "رجال الأمن" لم يعيشوا مع من يعتبرونهم "خونة" و "عملاء" و "إرهابيين". إن رأووهم بشرًا لا مجرد أفكار دنسة لن يستطيعوا أن يرتكبوا ذات الجرائم اللإنسانية ضدهم بدم بارد. 

المعتقلون بشر، لهم علاقاتهم بأهلهم، بأصدقائهم، بناس عاديين أخرين. الشهداء بشر لهم من يتألمون عليهم، و لا يستطيعوا أن يتخطوا صدمة فقدهم. إنهم ليسوا مفاهيم و عبارات جافة، و لا الكياينات -التي يدعي علماء السياسة من مكاتبهم المكيفة أنهم يهددونها - هي الأخري مفاهيم و عبارات جافة كذلك. "الوطن" هو مجموع أفراده بكل اختلافاتهم، و أفراده هم كل قاطنيه بلا استثناء. "الأمن" هو أمن هؤلاء البشر و لا أمن أي مؤسسة. بل حتي المؤسسة عبارة عن بشر من لحم و دم لا مجرد مفهوم.

من مصلحة كل نظام فاشي و قمعي أن يتحول البشر و الكيانات لمفاهيم، هكذا يصير أسهل عليه الإجرام بحقهم بدم بارد. "باومن" له تفسير جيد لتلك الفكرة في كتابه "الهولوكوست و الحداثة"، و يرصد فيه كيف يمكن التغاضي عن الإجرام ضد الإنسانية إن حولنا البشر لمفاهيم، و لكن ما قد ينقص "باومن" أن حماية النظم الديكتاتورية تحتاج تحويل الكيانات كذلك لمجرد مفاهيم، لا كبشر متحدين. حينها يصير اللامنطقي منطقيًا، حينها تصير عبارة "مصر فوق الجميع" منطقية، و لا يخطر لأحد أن ينقدها و يهتف "مصر هي الجميع".


الجمعة، 19 ديسمبر 2014

أيديولوجيا النظام الحالي

 ( هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).

  هناك كثيرون يصعب عليهم تفسير سياسات النظام الحالي التي تبدو لهم متناقضة و لا تنتمي لأيدولوجيا واضحة. يحاولون أن يضعوا تعريفًا يصف هذا النظام فيفشلون؛ لأنهم لا يجدون له نمطًا محددًا، و مواقف ثابتة يمكن من خلالها قراءة توجهه الفكري. الخطأ الذي يرتكب هو تحليل هذا النظام من خلال نظرة علوم سياسية تحلل أنظمة الحكم المختلفة. تحليل هذا النظام  يتطلب ما هو أكثر تعقيدًا و بساطة. تحليل الأفكار الاجتماعية خلفه.
     وصف هذا النظام بالمتناقض ينبع من حرصه علي التضييق علي الحريات الدينية مثل منعه لكثير من الدروس الدينية، و في ذات الوقت التربص بكل من يمثلون خروجًا علي أفكار الدين و العرف مثل المثليين و الملحدين بل و التعامل معهم بأقصي درجات العنف و اللاإنسانية. في البداية وقف بجواره كثير من من يدعون الليبرالية و اليسارية ثم فوجئوا بأنه لا يستهدف القضاء علي الإخوان و محاربة الفكر الإسلامي، و لكنه يستهدف كل ما يمثل خروجًا عن فكره، أو حتي تبني أيديولوجيا واضحة.
        نظام عبد الناصر عرف عنه قمعه للفكر الإسلامي و اليساري و تضييقه الخناق علي كل ما هو "إسلامي". لكن عرف عنه كذلك كونه مدنيًا، و مرونته في التعامل مع الاختلافات العقائدية و الاجتماعية. لم يعرف عنه مثلاً قمع الملحدين كملحدين (و إن عرف عنه الفتك بالشيوعيين) و عرف عنه تقبل بعض الأوضاع المنبوذة اجتماعيًا مثل وجود نوادٍ للمثليين.
          نظام مبارك ربما يعد الأقرب لنظام السيسي؛ لأنه تبني ذات الاّلية في مهاجمة "الكل". و يعني بذلك مهاجمة كل ما يمثل خروجًا عن قواعد المجتمع أو السلطة السياسية مثل الإلحاد أو المثلية أو تغيير العقيدة أو الإشتراك في النشاط السياسي الطلابي أو حضور الدروس الدينية أو الذهاب للمساجد بانتظام.
           أزمة هذه الاّلية أنها تعجز الكثيرين عن فهم العقيدة التي تقبع خلف القمع. هي ليست عقيدة دينية؛ لأنه يهاجم الحريات الدينية. و ليست عقيدة مدنية؛ لأنه يعتدي علي حريات الأشخاص، لكنها عقيدة فكرية أكثر تعقيدًا. إنها عقيدة اجتماعية بالدرجة الأولي. بمعني اّخر القمع مصدره فكر اجتماعي لا سياسي، و العقيدة التي تحدد ما يقبله النظام هي أفكار المجتمع و العادات و التقاليد المقبولة لغالبية أعضائه.
           النظام السياسي الديكتاتوري في مصر الاّن هو أقرب لصورة مكبرة للمجتمع. القبول بالحكم المطلق للحاكم و تقديسه و حتي خطابه العاطفي يرتبط بصورة الأب الاجتماعية ببعدها العنيف و العاطفي في اّن واحد. صورة الدولة البوليسية تشبه عصا الأب عندما يتعامل مع أبنائه الخارجين عن قواعده في الأسرة المصرية التقليدية. الأب في الأسرة المصرية التقليدية لا يخطأ و لا يسمح لأحد بأن يعصاه أو أن يناقشه حتي و إلا يدفع الثمن بالعصا.
             السلوكيات التي يرفضها المجتمع مثل الخروج عن الدين بتغيير العقيدة أو بالإلحاد تتعامل معها الأسرة إما بمحاولة إعادة الطفل الضال –الذي تؤمن الأسرة بأنه تم التلاعب بعقله أو أنه يعاني من حالة نفسية- للتقوي بعرضه علي شيخ أو طبيب نفسي أو تضربه أو تطرده أو تحبسه. و هذه استراتيجية مشابهة لما فعلته الدولة عندما بدأت حربها علي الملحدين بتنظيم مجموعة لمحاربة الإلحاد بين أعضائها طبيب نفسي ثم أخذت خطوة أكثر عدائية عندما بدأت تتربص بأماكن تجمعهم و تغلقها.
             المثلية مشاعر و ميول يرفضها المجتمع بقسوة و يؤمن بضرورة إفناء أصحابها، و هذا هو موقف الدولة تمامًا، فهي تعمل علي الترصد بالمثليين و مطاردتهم و حتي البحث عنهم بوضع مخبرين علي مواقع تجمعهم الالكترونية. ثم عند القبض عليهم تعطيهم أسرع أحكام قضائية و تعرضهم لأبشع أنواع التعذيب البدني و الاعتداء الجنسي الذي قد يصل للاغتصاب.
               مجتمعنا ليس مدعيًا للتعصب، بل يدعي تمسكه بالدين المعتدل و رفضه لكل صور التشدد. و الدولة ترفض كل صور التشدد كذلك (بتعريفها هي للتشدد) و لا تخنق علي أي مظهر ديني مقبول اجتماعيًا مثل الحجاب، لكن تخنق علي المنتقبات مثلاً.  بمعني اّخر تقبل من التدين الدرجة التي تتبعها الأغلبية، و تعتبر كل تجاوز لذلك الحد تعصبًا و علامة علي السير في طريق التطرف.
                باختصار هي دولة أقرب في أيديولوجيتها للأسرة المصرية التقليدية، و يمكن قياس ما تقبله و ترفضه و طريقة تعاملها معه بالنظر للأسرة المصرية التقليدية و هيكلها الديكتاتوري القمعي. و أقرب نموذج للأسرة المصرية التقليدية التي ينبع منها النظام السياسي القمعي الحالي هي أسر ضباط الشرطة. أسر ضباط الشرطة تتراوح حرية الملبس فيها بين النصف كم و تناورات أسفل الركبة إلي الحجاب "المعتدل". و أفرادها يحرصون علي الصلاة أحيانًا، لكن صلاة الجمعة فرض أساسي أسري بالدرجة الأولي. أغلب الأسر الشرطية مسلمة لكن توجد أقلية مسيحية. و الأب غالبًا له سلطة مطلقة علي الأسرة، و يتمتع بقدر كبير من العنف، و يحرص كثيرًا علي الإيذاء البدني للأطفال (الذكور بالذات) لتعليمهم الإلتزام بكل القواعد التي يضعها هو.  و لا يمكن في هذه الأسرة خروج فرد ليعلن رأيًا سياسيًا أو دينيًا أو اجتماعيًا معارضًا للأسرة. و بالنسبة للحرية الجنسية فهي أصلاً كلمة لا تسمع أبدًا في تاريخ الأسرة، رغم التكرار اليومي للألفاظ الجنسية الخارجة من جانب الأب (الذي يبرر له ذلك بتعامله مع مجرمين طوال الوقت).
                    بنيان هذه الأسرة و فكرها فيه شيء من شفرة بنيان النظام الديكتاتوري المصري و أيديولوجيته، و تحليله يحمل معه تحليل هذا النظام. و لكن أكبر خطأ قد يرتكب أن ينظر لهذا النظام كأي نظام ديكتاتوري اّخر؛ لأن هذا النظام يكتسب هويته من النظام الاجتماعي المصري، و سر وجوده و مفتاح فنائه في هذا المجتمع.