الجمعة، 1 يناير 2016

نسبية القيم و حرية الأفراد أمام المجتمع و الدولة

       (هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).

      لا يوجد مجتمع يقر تمامًا بحرية الفرد في حياته/ا الشخصية. كل مجتمع لديه قواعد محددة لحرية الأفراد في حياتهم الشخصية، و يفرضها من خلال عدد من المؤسسات أكثرها وضوحًا هو الدولة (كذراع المجتمع السياسية). حتي المجتمعات التي توصف بالفردية، و تقديس الفرد علي حساب المجتمع –المجتمعات الأوروبية- تضع حدودًا علي ممارسة الأفراد لحرياتهم الشخصية. هذه الحدود ليست "حرية الاّخر/ي" أو "عدم إيذاء الاّخر/ي" فقط، بل هي كذلك تتعلق بمفاهيم المجتمع. علي سبيل المثال، لا تقبل هذه المجتمعات بفكرة التعدد الزوجي، و لا بزواج أفراد العائلة الواحدة.
      هل هذا صواب؟ هل يفترض أن تقيد الحريات الشخصية لأسباب غير الحفاظ علي حرية الأّخر/ي و حقه/ا في عدم إيذائه/ا؟ هذا المقال يدافع عن رفض أي قيد علي الحرية إلا في حدود حماية حق الاّخر/ي في عدم إيذائه/ا. هذا المقال ضد تدخل الدولة في حياة الأفرد الشخصية ماداموا لا يؤذون غيرهم.
أولاً: نسبية القيم:         "هل هناك فعل في حياة الأفراد الشخصية صوابًا أو خطأ مطلقًا؟"
أ-نماذج علي اختلاف أنظمة النكاح و الطلاق تاريخيًا و اجتماعيًا:
       قبول فعل معين في حياة الأفراد الشخصية مسألة إطار اجتماعي و تاريخي. في مصر الفرعونية، كان زواج أفراد العائلة الواحدة، و التعدد كحق للزوج (خاصة في العائلة الملكية) أمرين مقبولين اجتماعيًا (سواءًا زواج الأخ بالأخت أو الأب بالبنت)، و لدينا نماذج كثيرة لهذين النظامين الزوجيين مثل زواج إخناتون بابنته أو زواج رمسيس الثاني بعدد مهول من النساء. كذلك يري بعض علماء المصريات أن المثلية وجدت كنظام اجتماعي، و أول مثليين في التاريخ عاشوا سويًا أمام المجتمع، وجدوا في مصر الفرعونية "حنمحوتب ونيانخم مزيني" . حتي الطلاق –الذي لم يكن محببًا- وجد في مصر الفرعونية كنظام لإنهاء الزواج.
       في غضون العصور الإسلامية، تغير نظام المجتمع عدة مرات. في بعض العصور، كان هناك تقبل للمثلية، و نظم قريبة من البغاء كجزء من النساق الاجتماعي، لكن في عصور أخري رفض تمامًا تقبل هاذين النظامين.
       في حقب تاريخية مختلفة، كان هناك تقبل من بعض القبائل في أسيا، و أفريقيا، و أمريكا اللاتينية لفكرة زواج المرأة بأكثر من رجل. و حتي الاّن في إقليم التبت، و في بعض القبائل الهندية يستمر هذا الشكل من أشكال الزواج.  
       في أوروبا، خلال القرون الوسطي، و حتي أواخر القرن العشرين، كان ينظر للمثلية علي أنها خطيئة. و للغرابة، في ذلك الوقت، كانت بعض المجتمعات الإسلامية في بعض العصور (العصر العباسي) أكثر تقبلاً للمثلية. في أواخر القرن العشرين، حدث تحول في أوروبا لتقبل المثلية، بينما ازدادت كراهية، و رفض المجتمعات العربية للمثلية.
      حتي الطلاق (انحلال عقد الزواج) تقبل المجتمعات المحتلفة له عبر العصور تغير. المجتمع العربي في العصور الوسطي (قبل الإسلام و بعده) كان متقبلاً لفكرة الطلاق-حتي و إن كانت مبغوضة- بينما كانت المجتمعات الأسيوية، و الأوروبية ترفضه رفضًا شديدًا في ذات الإطار التاريخي، و حتي القرن العشرين.
      يمكن الجدال بأن هذا الاختلاف مرتبط بالمجتمعات و العصور التاريخية، و لكنه لا مكان له في الأديان، فالأديان تضع معايير متشددة للعلاقات الجنسية، و لا تسمح بالخروج عنها باختلاف الأزمان. لكن هذا الجدال ليس صحيحًا بشكل مطلق. فالأديان الإبراهيمية كلها تقر بزواج أبناء و بنات اّدم –عليه السلام- و حواء، لكنها جميعًا (و في كل مذاهبها) ترفض زواج الإخوة و الأخوات، و تعتبره خطيئة "زنا محارم".  و رغم أن الإسلام سمح تاريخيًا بنظام ملك اليمين إلا أن شيوخ الأزهر في القرن الحادي و العشرين رفضوا عودة هذا النظام، و اعتبروه زنا.  و رغم أن المسيحية تاريخيًا رفضت المثلية إلا أن بعض الكنائس البروتستانتية في أواخر القرن العشرين، و أوائل القرن الحادي و العشرين، بدأت تأخذ منحني قبول للمثلية.
ب-نماذج علي اختلاف مفاهيم المجتمعات تاريخيًا و اجتماعيًا لعري و الحجاب و تقبلهما في الأماكن العامة:
       المجتمع المصري هو نموذج يسهل الوصف عليه عند التحدث عن تغير مفهوم العري، و تقبله اجتماعيًا. المجتمع المصري كان يقبل خلال الستينات و السبعينات درجة من درجات العري مثل ارتداء التنوارات متناهية القصر في الشارع، لكنه تغير تدريجيًا لفرض قدر من الحشمة ثم الحجاب في الثمانينيات و التسعينات و مطلع القرن الحادي و العشرين.
        المجتمع الياباني نموذج أكثر جذبًا للإنتباه. في كتاب "اليابان في عيون مصرية" قال الكاتب أن المجتمع الياباني، لم يرفض العري تاريخيًا إلا عندما صدرت إليه أفكار أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر. و تحدث الكاتب عن الحمام الياباني الذي ينزل فيه الرجال و النساء معًا في عري كامل (رغم أنه ليس مكانًا جنسيًا).
        حتي تعريف العري اختلف علي مر العصور، و يختلف بين مختلف المجتمعات. ففي بعض المجتمعات الأفريقية، يعتبر عري الثدي شيئًا مقبولاً اجتماعيًا، بينما هو ليس كذلك في الدول العربية أو الأوروبية. و بينما يعتبر عري قدر من الساق مقبولاً في المجتمعات الأوروبية، فهو ليس بذات درجة التقبل في المجتمعات الأفريقية التي تقبل كشف الثدي. و في مصر الفروعونية، كان عري الثدي مقبولاً في المجتمع، لكنه بالطبع رفض تمامًا في مصر بدءًا من العصور الرومانية.
       أما عن الحجاب، و تقبله أو رفضه اجتماعيًا، فأقرب نموذج لذلك هو تجريم فرنسا لارتداء المرأة للنقاب. تركيا، و تونس كذلك كانتا تضعان قيودًا علي حرية النساء في ارتداء الحجاب. ففي تركيا، لم يكن يسمح للمحجبات بدخول حرم الجامعة، و في تونس كان يفرض علي المرأة، خلع الحجاب عند دخلوها لمشفي حكومي. هذا بالطبع مختلف تمامًا عن الوضع في دول عربية و أسيوية، و أفريقية بل و أوروبية أخري، حيث يعتبر الحجاب و النقاب أمرًا مقبولاً قانونًا، و لا يرفضه المجتمع بشكل عام.
ج- هل يعني اختلاف القيم في مجتمعات و حقب تاريخية مختلفة عدم وجود صواب أو خطأ؟
       يصعب الجزم. ربما توجد أفعال و أفكار مختلفة، لكن هذا لا يعني أن كلها صواب أو خطأ أو أن بعضها صواب، و بعضها خطأ. قد تكون جميعًا خطأ أو صوابًا أو قد يكون بعضها صوابًا و بعضها خطأ. لكن الفكرة أنه يصعب إيجاد أرضية محددة يحكم من خلالها علي بعض الأفعال علي أنها خطأ، و بعضها علي أنها صواب بدون أن يكون ذلك الحكم منحازًا من جانبنا طبقًا للإطار الاجتماعي و التاريخي الذي نشأنا فيه.
ثانيًا: المجتمع، حرية الأفراد، و دور الدولة:
        ولأنه يصعب –بل ربما يستحيل- إيجاد حكم غير منحاز بصواب أو خطأ فعل معين مرتبط بالحياة الشخصية خارج إطاره التاريخي و الاجتماعي، فإنه شبه يستحيل الحكم بأن هناك فعل متعلق بالحياة الشخصية صواب أو خطأ مطلقًا. سيكون دائمًا لدي كل فرد، و كل مجتمع تصور لما هو صواب، و ما هو خطأ في الحياة الشخصية، لكن هذا التصور لا يمكن تعميمه –بل لا أساس قوي- لتعميمه علي الجميع.
        المجتمع كيان ديكتاتوري، يريد أن يفرض علي الأفراد مفهومًا واحدًا للصواب و الخطأ هو مفهوم الأغلبية، و يريد للجميع الالتزام به، و يفرض هذا النموذج عن طريق رفض المختلفين عن هذا النموذج، و إقصائهم، و الترويج ضدهم بمؤسسات مثل التعليم و الإعلام، و أخيرًا بقهرهم باستعمال سلطة الدولة كالطرف الوحيد الذي يحتكر استخدام القوة في المجتمع. المجتمع يدعي أن تصرف الأفراد في حياتهم الشخصية يهدد أمنه. هذه مجرد حجة يختلقها المجتمع لإيجاد تبرير لجرائمه ضد حرية الأفراد، و الأبشع ضد حقوق الأفراد كبشر. المجتمع عندما ينقض علي الأفراد لاختلافهم عن الأغلبية، لا يمنعهم في الحقيقة من فعل الأفعال التي تراها الأغلبية خطأ؛ فالأفراد غالبًا يفعلونها في الظلام. كل ما يفعله المجتمع، هو إجبار الأفراد المختلفين عن الأغلبية علي العيش في الظلام، و النبذ، و العذاب الداخلي. و عندما يفضح الأفراد المختلفون يكون مصيرهم التعذيب بأسواط المجتمع المختلفة –طبقًا لنوع اختلافهم- سواءًا بسوط الإبعاد، و النبذ، و الإقصاء، و انتهاك الحقوق أو بسوط الدولة مثل منعهم من الحقوق القانونية أو اعتبارهم مجرمين يستحقون الغرامة أو السجن أو التعذيب أو الإعدام.
       الدولة هنا مجرد أحد أسلحة المجتمع ضد الأفراد الذين لا يتناسب ما يفعلونه في حياتهم الشخصية مع معايير المجتمع في لحظة زمنية محددة لما هو صواب و ما هو خطأ. و ربما لو عاشوا في مجتمع اّخر أو حتي نفس المجتمع في وقت مختلف، لكانوا هم الأغلبية، و الأغلبية هي الأقلية التي يضطهدونها.
          عدم تدخل الدولة في حياة الأفراد الشخصية هو الذي يضمن قدرًا من الحرية، و العدالة للأفراد أمام المجتمع الذي يخضع لجبروت فكر الأغلبية. أجل، الأفضل أن يترك كل فرد ليقرر/ تقرر ما يريده/ تريده في حياته/ا الشخصية، و ألا تعطي الدولة امتيازات لمن تتفق طريقة حياتهم مع فكر المجتمع علي غيرهم (و بالطبع ألا تتضطهد من يختلفون في حياتهم الشخصية عن معايير الصواب و الخطأ التي تضعها الأغلبية). لا يجب أن تقف الدولة أمام أي حرية شخصية إلا في حالة الاعتداء، و الفرض مثل الاغتصاب أو التحرش أو زواج أو دعارة القصر. و  السبب في رفض زواج و دعارة القصر أن القصر لا يملكون إرادتهم و وعيهم بل يفرض عليهم قرار اّخرين، و لأنه يمكن لهم الانتظار حتي إتمام السن القانونية، بمعني اّخر حقهم لا يسلب، لكنه يؤجل.
        هذا ضمان حتي لا يعاني، و يضطهد الأفراد لاختلافهم عن الأغلبية، والأغلبية لا تمتلك احتكار الحقيقة المطلقة. حتي إن كانت الأغلبية تملك في يدها الدين، فالدين نفسه لا يجب أن يفرض علي الجميع؛ لأنه ليس الجميع يؤمن به. هذا ضمان لقدر من العدالة، و الإنصاف للأفراد أمام الأغلبية، للضعيف أمام الأقوي.


        

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق