(هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).
يبدو من بعيد وكأن الحر الحقيقي في الأنظمة التي تغيب
فيها المساواة هو "الأقوى"؛ مثل الرجل في المجتمع الذكوري، والثري في
المجتمع الذي تغيب فيه المساواة المادية، والحاكم المستبد في النظام الديكتاتوري
(حيث تغيب المساواة السياسية). هذا ما يبدو من الخارج، هذه هي الصورة السطحية
للمجتمعات القهرية التي تغيب فيها إحدىصور (أو ربما كل صور) المساواة. لكن النظرة
الأكثر تعمقًا لهذه الأنظمة تكشف حقيقة غريبة عنها. هذه الأنظمة لا تسلب الأضعف فقط
الحرية، بل إن هيكلها والطريقة التي تعمل بها، تجرد كل فرد داخلها (حتى أقوي من
فيها) من أي فرصة لبلوغ حرية حقيقية.كل فرد في هذه الأنظمة مسلوب حق الحرية. إنها
أنظمة القمع للجميع.
خلق
الاعتمادية المتبادلة وغياب الحرية:
إحدى كلمات
السر لنظام اللا مساواة هي "الاعتمادية". غياب المساواة مرتبط ارتباطًا
وثيقًا بخلق اعتمادية متبادلة. لوجود نظام ذكوري قهري قمعي قوي يجب خلق درجة من
الاعتمادية للمرأة على الرجل، يجب أن تكون المرأة مضطرة لاستخدام الرجل في أشياء
ضرورية -أو على الأقل يجعلها المجتمع ضرورية-حتى لا تستطيع الاستغناء عن الرجل وتحدي
سلطته. في مجتمعنا تحتاج المرأة إلى الرجل ماديًا، لكن حتى عندما تكون المرأة هي المعيلة لأسرتها، فإن المجتمع يجبرها على احتياج الرجل كغطاء اجتماعي،
بدونه يسهل مهاجمتها أو تعريضها لضغط الرفض، التجريح أو التهميش (كعانس أو مطلقة
أو أرملة). هذه الاعتمادية -احتياج الرجل كغطاء مادي أو اجتماعي-تجبر المرأة على
الرضوخ لتحكم الرجل، وفرضه للإطار الذي يراه ملائمًا (طبقًا لمحيطه الاجتماعي) على
تصرفاتها وحرياتها الاجتماعية والعملية والسياسية. هنا الاعتمادية المرأة على
الرجل -والتي يبتدعها المجتمع-تسلب المرأة الحرية.
هذه هي
الناحية الأولي للصورة والتي يسهل رؤيتها، لكن هناك ناحية أخري، وهي خلق اعتمادية
الرجل على المرأة. النظام الذكوري يفرض على الرجل أن يكون معتمدًا على المرأة في
أمور رئيسية بحياته. الرجل في المجتمع الذكوري لا يقوم بالطبخ أو بالغسيل أو
بالتنظيف؛ فهذه وظائف المرأة في المجتمع الذكوري. نتيجة تعود الرجل على خدمة
المرأة (والدته،وأخته ثم زوجته) هي عجز الرجل عن القيام بهذه الأعمال الأساسية
لحياته كإنسان، ووجود قدر كبير من اعتمادية الرجل على المرأة في المجتمع الذكوري. هذا
يسلب الرجل قدرًا من حريته؛ لأنه يصير دائمًا مضطرًا للاستعانة بأحد[a1] .
هذا النموذج يشابه ما يحدث في الأنظمة التي تغيب فيها
المساواة المادية، وتتسع فيها الفجوة بين الأثرياء والفقراء. في هذه الأنظمة يسند
للفقراء المهام التي تسند للمرأة في الأنظمة الذكورية. فيصير الخدم،وعمال النظافة،
والطباخين العاديين من الطبقات الاجتماعية الأدنى. وبذلك يصير الأثرياء معتمدين على
الفقراء، وعاجزين عن الاعتماد علي أنفسهم تمامًا في إدارة احتياجاتهم الأساسية مثل
الطعام،والإقامة في مكان لا يهدد الصحة بسبب قذارته.
هذان نموذجان عن كيف تفرض أنظمة اللا مساواة الاعتمادية
المتبادلة بين الأضعف والأقوى، وكيف يؤدي ذلك إلى غياب الحرية لكلا الطرفين.
الأدوار التي تفرضها أنظمة
اللا مساواة على الأفراد وغياب الحرية:
الأدوار المختلفة التي
تفرضها أنظمة اللا مساواة على الأفراد تسلب الأضعف،والأقوى بعض حرياتهم. الرجل في
الأنظمة الذكورية مسلوب حقه في اختيار القيام بأدوار أنثوية كما هو صعب علي المرأة
أن تختار القيام بأدوار ذكورية. الرجل ينتقد إذا أبدي رقة وحنانًا أو عبر عن
مشاعره بالبكاء، والمرأة تنتقد إذا حاولت أن تبدي صلابة. يصعب على الرجل أن يكون
طموحه أن يعمل ممرضًا أو مربي أطفال، كما يصعب على المرأة أن تحلم أن تصير أركان
حرب. الفكرة ليست أن المجتمع يمنع الرجل أن يصير ممرضًا أو مربيًا، ولا أنه يمنع
المرأة أن تعمل بالجيش فقط؛ الموضوع أعمق من ذلك. المجتمع يفرض على الرجل والمرأة
صورة محددة للنفس يصعب تخيل سواها. المجتمع يفقد أفراده فرصة تخيل أنفسهم في دور
يخالف ما يفرضه عليهم.
نعود لنموذج الفقراء والأغنياء؛ في مجتمع تغيب
فيه المساواة المادية يصعب على الثري/ة أن يحلم/تحلم بالعمل بوظيفة غير ملائمة
لمركزه/ا المادي مثل الخدمة، والتربية، والطبخ، والتنظيف، والتمريض. الثري/ة
سيكون/ستكون عاجزًا/ عاجزةً عن مجرد التفكير في مثل هذه الفرص؛ لأنه/ا سيتصور/ستتصور
أن هذه الأعمال بالضرورة غير ملائمة؛ لأن المجتمع يضع هذه الأعمال في المرتبة
السفلي.وطبعًا يصعبعلى الفقير/ة أن يحلم/تحلم بتولي مجلس إدارة شركة.
حتى في أنظمة لا مساواة أخري (مثل اللا
مساواة السياسية) نجد الأقوى مضطرًا أن يلعب دورًا واحدًا يسلبه حق لعب أدوار
أخري. فالديكتاتور لا يستطيع أن يقوم بأعمال أو يرتدي ملابس أو يتحدث بطريقة تدمر
صورته القوية العنيفة أو الأبوية. الديكتاتور ملزم بالحفاظ على شكل خارجي له بأي
ثمن يدفعه من حريته. الديكتاتور مسلوب الحرية.
الفارق ما بين الاعتمادية والعمل
الجماعي-الفارق ما بين الأنظمة القهرية وأنظمة المساواة:
يمكن الجدال بأن كل نظام اجتماعي إنساني يتطلب
مساعدة فرد أو مجموعة أفراد لفرد اّخر أو مجموعة أخري، وأن هذه هي طبيعة المجتمعات
البشرية، وليست طبيعة خاصة للأنظمة القهرية، بل إن المجتمع فكرته هي تبادل
الأدوار، وتبادل المساعدة.
لكن مشكلة هذه الحجة أنها تخلط بين
المساعدة والاعتمادية[a2] . الاعتمادية هي عجز عن الاستغناء عن المساعدة، وخاصة في
أمور أساسية في حياة الفرد. أنظمة المساواة لا تختفي فيها المساعدة، والعمل
الجماعي، لكن تختفي فيها الاعتمادية،وعجز الأفراد عن الاستغناء عن بعضهم، خاصة
عندما يتعلق الأمر بأساسيات حياتهم. ولا يفرض على أي فرد الإقدام أو الامتناع عن
أي دور محدد بما يحد حريته/ا[a3] .
يمكن للبعض أن يجادل بأن الأنانية طبيعة
بشرية (اعتمادًا علي رأي هوبز)، و أن خلق الاعتمادية و الإلزام بالمسؤولية ضروري؛
لأن المساعدة تحدث بإرادة فردية حرة، و الإرادة الحرة للأناني/ة لن تؤدي بالضرورة
إلي المساعدة. يمكن انتقاد أساس هذا الرأي بانتقاد الافتراض القائم عليه بأن طبيعة
البشر أنانية. الأنانية أو التضحية و الفداء صفات تزرع من المجتمع داخل أفراده.
مثل هذه الصفات ليست جزءًا من طبيعة الإنسان بل هي نتاج إطار اجتماعي محدد. و حتي
إن افترضنا أن الأنانية صفة طبيعية لا اجتماعية، فهذا لا يعني خلق الاعتمادية
اجتماعيًا لعلاج اّثار الأنانية. يمكن للمجتمع أن يحفذ أفراده علي المشاركة و
العمل الجماعي، دون أن يفرض عليهم دورًا محددًا، و طريقة محددة لهذه المشاركة، و
بشكل تمييزي.
يمكن في مجتمع تتحقق فيه المساواة المادية أن
تتواجد أعمال مثل عامل/ة النظافة في الأماكن العامة، لكن في هذا المجتمع لن تكون
هذه الأعمال مغنية عن قدرة ومسؤولية كل فرد في التنظيف لنفسه/ا، وتنظيف كل ما
يوسخه/توسخه حتى خارج نطاق منزله/ا الخاص. وأيضًا لن يكون العمل كعامل/ة نظافة أو
ممرض/ة أو طباخ/ة حكرًا على طبقة بعينها، بل سيكون لكل فرد حق أن يطمح/تطمح لشغل
هذه الوظيفة؛ لأن هذه الوظيفة لن تكون أدني من وظيفة الوزير.
في مجتمع تتحقق فيه المساواة الجندرية، لن
يكون الرجل معتمدًا على المرأة أو العكس؛ لأن المرأة لن تحتاج رجلاً كغطاء مادي أو
اجتماعي، والرجل لن يحتاج امرأة لتقوم بالمهام الأساسية في حياته. لكن في هذا
المجتمع يمكن للرجل، والمرأة أن يتعاونا في أي مجال، دون أن يكون هناك دورًا محددًا
مفروضًعلى أحدهم.
العمل الجماعي أو المشاركة يجب أن يأتي من
موقف يكون فيه العاملون أو المتشاركون قادرين على الاعتماد على أنفسهم، فيكونون أحرارًا
بصدق، وإلا صار العمل الجماعي أو المشاركة نتيجة لاعتمادية، وفقدان للحرية.[a4]
عن ارتباط الحرية بالمساواة:
الجدال الرئيسي في هذا
المقال أن تحقيق الحرية للجميع مرتبط بتحقيق المساواة بين الجميع، وضمان أن كل فرد
قادر/ة على الحياة دون اعتماد (خلقه المجتمع) علىاّخر/أخري. فبدون وجود مساواة
حقيقية بين أفراد المجتمع، توجد اعتمادية متبادلة من الضعيف على القوي، والعكس،وهذه
الاعتمادية تؤدي لغياب حرية جميع أفراد المجتمع.
المجتمع الذي يختار انعدام المساواة بين
الجميع يختار معها القمع للجميع. المجتمع يختار،وأفراده الأقوياء،والضعفاء يؤيدون،
يؤيدون ظلمهم[a5] ، يؤيدون عبوديتهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق