الخميس، 28 أبريل 2016

نظرية اللبانة- وهم دولة القانون- منشور بمجلة الجامعة الأمريكية AUC TIMES عدد يونيو 2015

       (هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).

      منذ عصر التنوير الأوروبي و مع ظهور الأفكار عن الدولة الحديثة (و بخاصة أفكار روسو عن العقد الاجتماعي)  تم الترويج و التصديق في أسطورة دولة القانون التي تستمد مشروعيتها من موافقة الأغلبية (ما يظن أنه الديمقراطية). اّمنت أوروبا بالأسطورة، و عملت علي تحقيقها، و مع بدء عصر الاستعمار، ثم النهضة -التي صاحبت مقاومة الاستعمار- في الدول النامية، تأثرت النخب في الدول النامية بالفكر الأوروبي، و تدريجيًا اّمنت الدول النامية بأن طريق النهضة هو إعادة بناء دولها بطريقة مشابهة لبناء الدول الأوروبية الحديثة؛ بالديمقراطية، و عماد دولة القانون.  كل ذلك ليس بالضرورة سلبيًا، بل ربما –من جوانب محددة- يعد تأثيرًا إيجابيًا للفكر الأوروبي علي فكر الدول النامية، لكن الكارثة هي الطريقة التي تم بها تطبيق، إعادة بناء كثير من تلك الدول.   
          كثير من الدول التي إدعت أنها تبنت فكرة "الدولة الحديثة" -التي وضع أسسها فلاسفة عصر التنوير الأوروبيين وعلي رأسهم روسو- قامت ببناء هيكل ديكتاتوري مقنع بديمقراطية زائفة، أو ديكتاتورية مباشرة. و حتي عندما إدعت تلك الدول تبني مفهوم "العقد الاجتماعي" أو "دولة القانون" قامت بتفصيل القانون ليصير ملائمًا للإبقاء علي ملامح الدولة العتيقة الديكتاتورية. نماذج ذلك كثيرة جدًا في أفريقيا و أمريكا اللاتينية و الدول العربية في عصر ما بعد الاستقلال. و لكن ما يعنينا هنا هو مصر.
         مصر بالذات حالة دراسة ثرية جدًا. مرت مصر ببناء الدولة الحديثة علي الأفكار الأوروبية. شهدت مصر فترة تحول نسبي نحو شيء من الديمقراطية في العصر الملكي، و خسرت ذلك تمامًا بعد الحكم العسكري لمصر منذ 1952، لكن حتي تحت وطئة الديكتاتورية و الإقرار بحكم الفرد، ظلت أسطورة الدولة و وهم دولة القانون قائمين. و حتي هذه اللحظة هناك من يدافعون عن الإيمان بأن مصر دولة قانون.
         هؤلاء يؤمنون بأكذوبة روجت طويلاً، و صدقناها. و ليسوا جميعًا بلهاء أو جهلاء، بل أزمة بعضهم أنهم متعلمين و مثقفين! تعلموا أن يفكروا و يؤمنوا بالنظريات الفكرية و السياسية الأوروبية السائدة عالميًا (حتي اليوم) عن الدولة و القانون، و الأزمة أن يأتي التصديق و الإيمان بهذه الأفكار و الإقتناع أنها تنفذ، بدون النظر للحظة إلي الواقع. ليس الخلل في الأفكار، لكن في الحكم علي الواقع بموجب الأفكار. الأفكار مهمة في تقرير كيف يجب أن يكون الواقع، لا للحكم في كيف هو بالفعل.
          واقع الدول الديكتاتورية أكثر تعقيدًا بمراحل. الدولة الديكتاتورية الحديثة دولة بها قانون. نادرًا ما تفتقر دولة ديكتاتورية لقانون، أو تعمل بشكل خارج عن "المشروعية".  هذه الدول تفصل قوانيها حتي يكون فيها القمع و الظلم مشروعين. مصطلح "ترزية القوانين" المصري الشهير يشير إلي طبيعة القوانين التي تضعها الدولة الديكتاتورية، إنها قوانين مفصلة بدقة حتي لا تترك مخرجًا قانونيًا لتحقيق أي هدف يرخي قبضتها الصلبة علي الدولة. و أشهر مادة قانونية تصف ذلك هي المادة 76 من دستور 1971  و التي إتهمت بأنها فصلت لتكون علي مقاس جمال مبارك وحده في حال ترشحه للرئاسة.
        لكن حتي القوانين المفصلة يبقي بها ثغراتها التي تسمح للنشطاء السياسيين بالالتفاف عليها، و ابتكار طرق للمقاومة. مثلاً إن وجد قانون مفصل عن منع التظاهر، يمكن للنشطاء أن يدعوا لندوة و يهتفوا في الندوة. إن منع التجمهر،يمكن أن يترك التظاهر و التجمهر، و يلجأ لإجراء معارض، أو أحيانًا إرتداء لون معين أو رسم لوحات معينة. يجد النشطاء دائمًا طريقًا ليستحدثوا أساليب مقاومة خارج النطاق الضيق لخيوط القانون المفصل.
        لذلك تلجأ الدولة عتيدة الديكتاتورية إلي تحويل القوانين من ثوب ضيق مفصل و محبوك ليناسب مقاس واحد بعينه، و يخنق ما دونه داخله إلي "لبانة". أجل، لبانة. تكتسب قوانين الدول الديكتاتورية مرونة اللبانة، حيث يسمح لها أن تتمدد و تنكمش حسب الطلب. يمكن أن تؤول بأكثر من معني، و يمكن أن يدان بها أو يبرأ الكثيرون. من أمثلة هذه القوانين "قانون ازدراء الأديان" (يستخدم ضد المثقفين و الملحدين) و "إهانة رئيس الجمهورية" و "إهانة وزير الداخلية" و "التجمهر" و "التظاهر" (يستخدمون ضد النشطاء السياسيين) و "ممارسة الفجور" و "التحريض علي الفجور" (يستخدمون ضد المثليين و المتحوليين الجنسيين).
       قوة اللبانة الحقيقية أنها يمكن أن تستخدم وسيلة تهديد ضد أي أحد في أي لحظة. إنها تعطي الدولة حرية أن تتلاعب بالقانون كما يحلو لها فتقرص أذن من تشاء، و تعفو عن من تشاء، و تدين من تشاء، كما أنها تضيق فرص النشطاء في إيجاد ثقب في الثوب الخانق.
         من خلال القوانين المفصلة من ناحية و القوانين المطاطة من ناحية أخري تستطيع الدولة أن تتلاعب بالقانون كما يحلو لها. حينها يؤمن الكثيرون أن الدولة دولة قانون و تطبق القانون، يدافعون عنها، و يكون دفاعهم مدعومًا بأن كل قضية حكم فيها بموجب القانون، و هم محقون إلي حدٍ ما (إذا تجاهلنا ما يتم من انتهاكات لقانون الإجراءات الجنائية و الكفيل بإبطال الدعاوي). لكن هذا يحدث؛ لأنهم يبدأون بتقديس القانون بدون محاولة نقده أو النظر إلي مدي كونه عادلاً في إرسائه لمباديء عامة أم أنه يفصل علي مقاس محدد أو بمرونة تسمح بالهرب منه و في ذات الوقت (عند الطلب) الخنق به.
      الدولة الديكتاتورية الحديثة دولة قانون، لكن قانون مشوه، يفتقر للأفكار الأساسية وراء القانون أن يكون عادلاُ و منصفًا، و عامًا مجردًا لايستهدف أفراد بعينهم، و لا يصير لعبة في يد أي طرف يعبث بها كما يشاء. عندما يدافع أحد أمامك عن تطبيق الدولة الديكتاتورية للقانون، جادله في ذلك، لكن جادله قبل ذلك في تكوين القانون الذي تطبقه؛ هل هو منصف، و عادل لجميع الأطراف، و عام و مجرد أم مفصل علي مقاس طرف بعينه أو "لبانة" مطاطة تستوعب بطش السلطة كلما شاءت؟       
          

         

الثلاثاء، 26 أبريل 2016

هل الدين نسبي أم مطلق؟

       (هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).

       كثير من أتباع و رجال الديانات المختلفة يدعون كثيرًا أن دياناتهم مطلقة، لكنهم علي أرض الواقع يتصرفون علي أنها نسبية دون وعي منهم. في أوقات كثيرة في حياتي، ظلمت الدين؛ لأنني كنت أراه ظالمًا، و لم أنظر للإطار التاريخي و الاجتماعي الذي ظهر فيه الدين أو مورس. حتي توصلت إلي فكرة أن الدين إطار اجتماعي، و تاريخي إلي حد كبير، و أن أحكامه نسبية لا مطلقة، و ذلك جعلني أكثر عدلاً في نظري، و تقيمي للديانات المختلفة، خاصة في أحكامها التي تعتبر في هذا الوقت التاريخي، و هذا المجتمع ظالمة.
        سيصدم الكثيرون عبارة أن الدين نسبي، و سيهاجمون بأن أحكام الدين مطلقة لا تتغير، لكن هذا يختلف عن الواقع. صحيح أن كثيرًا من أحكام الدين ثبتت في أوقات تاريخية، و مجتمعات مختلفة، لكن الكثير من أحكام الدين تغيرت من مجتمع لاّخر، و من وقت لاّخر. الأزهر ( و هو أكبر مؤسسة سنية في العالم الإسلامي) رفض مثلاً فكرة ملك اليمين عندما عادت للظهور منذ عدة سنوات، و قال أن مرتكبيها زناة، رغم أن ملك اليمين كان مقبولاً كصورة من صور النكاح في الإسلام. الأزهر تبني وجهة النظر التي تري أن المجتمع تغير، و لا يمكن قبول عودة نظام نكاح كهذا فيه. رجال الدين الشيعة في إيران مثلاً تقبولوا فكرة التحول الجنسي، و تعتبر إيران الدولة الثانية عالميًا في التحول الجنسي؛ مثل هذا الرأي لم يكن ليقبل في السابق من قبل رجال الدين الشيعة. حتي كثيرًا من الأحكام الدينية للشيعة كزواج المتعة المرفوضة تمامًا للسنة يمكن تفسير وجودها بالإطار الاجتماعي الذي نشأت فيه الذي يعتبر أكثر تقبلاً لأفكار اجتماعية منفتحة عن الإطار الاجتماعي للمجتمعات السنية. حتي في المجتمعات السنية، انتشار الفكر الوهابي في السعودية مثلاً، مقابل الفكر المالكي في تونس، مرتبط بالاختلاف التاريخي للمجتمعين إلي حد كبير.
        الإطار التاريخي، و الاجتماعي حدد كثيرًا من الاختلافات بين ديانات متقاربة مثل الديانات الإبراهيمية، كما أنه حدد الاختلافات بين المذاهب المختلفة داخل هذه الديانات. مثلاً الكاثوليكية ترفض الزواج بين أبناء العمومة، و تعتبره زنا محارم، لكن هذه الصورة للنكاح مقبولة لدي الأورثوذكس؛ لأن المجتمعات الأورثوذكسية (كمصر) شاع فيها زواج الأقارب تاريخيًا، بينما رفض تمامًا بالنسبة للمجتمعات الكاثوليكية (كروما) تاريخيًا، و نظر إليه بتقزز. اليهودية مثلاً تلزم المرأة التي ترملت بالزواج بأخ زوجها جبرًا عليها و علي أخ الزوج، بينما تري المسيحية ذلك زنا محارم، و يقبله الإسلام، لكن لا يلزم به. هذا الاختلاف نابع من اختلاف المجتمعات الثلاث. المجتمع اليهودي ظل لفترة طويلة يضطهد المرأة، و لم يكن للمرأة فرصة لأن تعيش بدون الزوج، و كانت المرأة ستتعرض للإهانة، و الخدمة، و الاستغلال إلم تجد زوجًا مسؤولاً عنها في ذلك المجتمع. أما المجتمعات العربية البدوية، فكان للمرأة قدرة مالية فيها إلي حد ما، و كان شائعًا فيها الزواج من أرملة الأخ، لذلك قبل الإسلام هذا الزواج، و لم يفرضه. أما المجتمعات المسيحية خاصة الغربية، فقد اعتبرت الزواج بمثابة امتداد أبدي للأسرة؛ لذلك رأت الزواج من أخ الزوج بمثابة زنا محارم. تعدد الزوجات مثلأً وجد في الإسلام، و اليهودية، و رفض رفضًا باتًا في المسيحية؛ لأن المجتمعين العربي البدوي، و اليهودي قبل فيهم التعدد، و استقر كمؤسسة اجتماعية، بينما كان مرفوضًا تمامًا، و فكرة غريبة عن المجتمعات المسيحية قبل المسيحية.
           حتي الأحكام الجنائية في اليهودية، و الإسلام يمكن بسهولة رؤية الإطار التاريخي، و الاجتماعي خلفها. كثير من الأحكام الإسلامية مثل الرجم للزناة، و الجلد، و قطع اليد للسارقين، و القصاص من القاتل أو الفدية كانت موجودة في المجتمع العربي البدوي قبل الإسلام أو في المجتمعات اليهودية. كل ما أضافه الإسلام (و هي إضافة ليست صغيرة) هو وضع قيود قوية علي تنفيذ هذه الحدود، و إثبات الجريمة فيها.
           حتي الأديان الغير إبراهيمية، ترتبط فيها الأحكام الدينية بالإطار الاجتماعي. المجتمع الهندي مثلاُ تقبل تاريخيًا قبل الاحتلال الإنجليزي المثلية، و التحول الجنسي؛ لذلك فكثير من طوائف الهندوسية تبنت المثلية، و التحول الجنسي، و جعلتهم جزءًا من  العبادات الدينية.
          هل تعني نسبية الدين أنه غير منزل من إله بل مجرد اختراع بشري طبقًا للإطار التاريخي و الاجتماعي؟ ليس بالضرورة؛ لأن الإله لن يختار أن ينزل دينًا لا يناسب المجتمع، و اللحظة التاريخية التي أنزل فيها. أي دين سيختلف جزريًا مع عادات و تقاليد المجتمع، و طبيعة اللحظة التاريخية مصيره الفشل، و حتمًا سيموت، بل ربما لن يقبل من المجتمع أصلاً. المصلحون الاجتماعيون لا يصدمون المجتمع بتغييرات جزرية مرة واحدة، بل يحاولون تغييره علي مراحل، و هناك أمور قد لا يحاولون قط طرحها مهما اّمنوا بها حتي لا يرفض المجتمع التغيير جزريًا. التغيير أيضًا في لحظات معينة قد يكون مسببًا لمزيد من الألم، لا تخفيفه. الإله –في التصور الديني- ليس أقل فهمًا من المصلحين الاجتماعيين، و لا يمكن أن ينزل دينًا يتناقض جزريًا مع المجتمع؛ لأنه يعلم أن المجتمع ببساطة لن يتبعه، أو في أفضل الفروض سيتلاعب به ليجعله علي مقاسه.
             فكرة نسبية الدين تعلمنا درسين؛ الدرس الأول هو  ألا نحكم علي الدين خارج نطاقه الزماني و الاجتماعي. علي سبيل المثال: لا يمكن أن نحاكم الإسلام علي دموية الحدود الإسلامية بمعاييرنا اليوم لحقوق الإنسان؛ لأنها ببساطة كانت جزءًا من النظام القانوني البدوي و اليهودي قبل الإسلام. لا يمكننا أن نحاكم اليهودية مثلاً لأحكامها الجائرة بمعايير اليوم علي حقوق المرأة؛ لأن المجتمع اليهودي أصلاً كان وضع المرأة فيه مزريًا. لا يمكننا أن نحاكم المسيحية مثلاً علي غياب فكرة الطلاق فيها؛ لأن المجتمعات التي أنزلت فيها المسيحية كانت فكرة الطلاق، و حل رباط الزوجية غريبة جدًا عليها.
           الدرس الثاني هو ألا نؤمن بأن أحكام أي دين لا يجب أن تتغير بتغير الظروف الاجتماعية، و الإطار التاريخي. بعض الأحكام الدينية عادلة إلي حد كبير في إطارها الزمني و الاجتماعي، و جائرة تمامًا خارجهما. هل يجب مثلاً أن نظل نطبق قسمة المواريث الإسلامية؛ حيث يحصل الذكر علي حظ أنثيين؟ هذه القاعدة سببها الاجتماعي هو مسؤولية الرجل عن الإنفاق علي الأسرة في المجتمع البدوي علاوة علي أنها تعد أصلاً تطورًا في ظل نظام اجتماعي أهدر حق المرأة في الذمة المالية المستقلة. لكن اليوم نسبة عالية من الأسر الأكثر فقرًا في مصر تتولي امرأة إعالتها تمامًا لا رجل. اليوم، فكرة مساواة المرأة بالرجل في الحقوق، و الواجبات صارت فكرة مطبقة في كثير من المجتمعات. هذا نموذج واحد عن تغيير المجتمع، و كيف يؤثر علي مدي عدالة قاعدة دينية في دين معين.
          

         

الاثنين، 25 أبريل 2016

بحقوق من تؤمن/ين؟

     (هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).

     في البداية ظننت أن الأزمة في حقوق فئة بعينها. حاربت، عرضت نفسي للألم، شارفت علي دخول السجن أكثر من مرة، و الأسوأ أنني عذبت نفسي من الداخل، و تحملت جرح الأقربين إليَ، كل ذلك دفاعًا عن حقوق كل من اّمنت أنهم أقلية أو مظلومون. دخلت مجتمعات كثيرة لأقليات مختلفة، و لمدافعين عن الحقوق و الحريات، حملت داخلي ألمهم؛ حملت داخلي ألم كل من شعرت بظلم المجتمع أو الدولة أو الدين أو جميعهم أو بعضهم له/ا. حاربت بحماسة، و ألم، و صدق مشاعر حقيقيين. دهست الخوف، و مررت بلحظات سحقني الألم.
            كل ذلك كان حتي عرفت الضياع، ضعت لما أدركت أنني لم أحارب لأجل الجميع حقًا. تعذبت لما عرفت أن الظلم لا يشمل فئة بعينها أو مجموعة فئات، بل إنه يشمل غالبية، إلم يكن جميع البشر. أمر بأزمة وجودية، و أنا أشعر بالعجز عن محاربة كل ظلم. لكن الدرس المؤلم الذي أكتب عنه الاّن هو أن الغالبية لا تعترف إلا بما يناسب أفكارها من حقوق، و تنكرالحقوق علي ما لا تؤمن به. الألم العميق أن المدافعين عن الحقوق و الحريات كثيرًا (إلم يكن غالبًا) ما يدافعون عن حقوق ما يؤمنون به، و يرفضون حقوق من يرونهم مجرمين، مذنبين أو حتي مخطئين.
            كثير من المسيحيين (بل و بعض المسلمين) يدافعون عن المسيحيين، لكنهم يرفضون حقوق الملحدين. كثير من الملحدين و المتشكيين الدينيين، و حتي بعض المسلمين اليسار يؤمنون بحقوق الملحدين، و اللادينيين، و البهائيين، لكنهم يرفضون حقوق الإخوان، و يؤيدون أي جريمة ترتكب مهما بلغت دمويتها ضد الإخوان. و غني عن القول أن كثيرًا من الإخوان ينادون كثيرًا بحقوقهم كبشر في المؤتمرات خارج مصر، لكنهم يرفضون حقوق معينة للملحدين أو اللادينيين أو المتحولين الدينيين أو طبعًا المثليين. كثير من اليسار يدافع عن حقوق الأقليات الدينية كلها، و الفقراء، و العمال، و الطلاب، و حتي الإخوان، لكنهم يرفضون بشدة حقوق المثليين، و المتحولين الجنسيين. كثير من المثليين، و المتحولين الجنسيين يقبلون بحقوقهم و حقوق الأقليات الدينية المختلفة، لكنهم يرفضون حقوق المعارضين السياسيين، و طبعًا الإسلاميين. حتي أولئك الذين يقبلون حقوق كل ما سبق، و يؤمنون بمفهوم شبه غربي للحقوق و الحريات، و يرون المجتمع قامعًا و متخلفًا، و الدولة مجرمة، يحتقرون النساء اللاتي تقبلن تعدد الزوجات، أو المحافظين اجتماعيًا، و يرونهم متخلفين، و يبصقون علي الداعرات، و الذين يتناولون المخدرات و يرونهم مجرمين يستحقون السجن.
            القليل حقًا يتبني مفهوم حرية الاّخر مهما أخطأ ما دام لا يؤذي أحدًا؛ الغالبية تريد فرض ما تظنه الحق. و السبب خلف ذلك أن كل فرد لديه/ا مفهوم ثابت للصواب و الخطأ، و يري/تري أن من يرتكب/ترتكب الخطأ أو الإثم أو الخطيئة أو الجريمة يجب أن يمنع/تمنع منها، و يحاكم/تحاكم، و ينكل به/ا. كثير ممن يؤمنون بالإسلام لا يعترفون إلا بالديانات الإبراهيمية، و يرفضون تمامًا حرية كل من يؤمنون بغير هذه الديانات. كثير ممن يؤمنون بالإسلام أو المسيحية يرفضون حقوق المثليين، و المتحولين الجنسيين، و  الداعرات؛ لأنهم بالنسبة إليهم اّثمين مصيرهم الجحيم. كثير من اليسار يرفضون حقوق الإسلاميين؛ لأنهم يرونهم يرفضون الحقوق، و الحريات، و يريدون الدولة الدينية. كثير من مؤيدي النظام يرون أن المعارضين يستحقون القتل؛ لأنهم لا يتمتعون بالوطنية الكافية. و ربما الهزلي، أن كثيرًا من المثليين يرفضون حقوق الداعرات لأنهن تبعن أجسادهن، و بعض المتحوليين الجنسيين يرفضون حقوق المثليين؛ لأنهم يرون التحول الجنسي ليس حرامًا؛ لأنهم يؤدي لعلاقة غيرية، بينما المثلية هي الحرام.
            السبب خلف كل ذلك هو وهم الكثيرين أن معهم الحق، و أن الاّخرين هم الباطل. و السبب العميق خلف ذلك أن المظلومين لا يرون سوي ظلمهم، لا يرون الظلم الواقع علي الاّخرين. المسيحية قد تري الحقوق المنقوصة منها لكونها مسيحية و امرأة، و قد تحارب لتمنح حق الطلاق من زوجها القاهر، لكنها لا تعرف وجع ملحدة طردت من بيتها، عذبتها أسرتها، و كادت تلقي في السجن بسبب رفضها للدين. قد تعرف إخوانية وجع أن يقتل والدها، و تلقي أسرتها كلها في السجن، و يتعرض بيتها للتدمير، لكنها لن تعرف وجع مثلي حاول أقصي ما في وسعه أن يغير نفسه ليرضي المجتمع، تعذب، عاش في الظلام، و ربما ألقي بفضيحة في السجن.
           كنت أحاكم الناس، و أدينهم؛ لأنهم يرفضون حقوق الاّخر، و يريدون حقوقًا لأنفسهم فقط، لكنني تعلمت أن من لم يجربوا وجع الاّخر/ي، يصعب عليهم فهم عذابه/ا، أو قبول حقه/ا. تعلمت أن من يعيشون وسط مجتمع معين أو مجموعة واحدة مشابهة لهم، يسهل عليهم الحكم علي الاّخرين، و يعسر عليهم تخيل أي حياة أخري خيرة غير الحياة التي تربوا عليها.
           أحيانًا أشعر أنني أريد أن أصرخ، أريد أن أقول للجميع أن يتركوا الاّخرين، و شأنهم، يرحمونهم. أشعر بالعجز لأنني لا أعرف كيف أتحدي العالم أجمع؛ لا أعرف كيف أعيد الحق للجميع. أعلم عجزي، و يؤلمني بقسوة. و بعد اكتئاب، إحباط، و أزمة وجودية، قررت أن أكتب هذا المقال؛ لأظهر لك أنك قد تظن/ين أنك تؤمن/ين بحقوق الاخرين، بينما الحقيقة أنك قد لا تؤمن/ين إلا بحقوق ما يتفق مع إيمانك. من يؤمنون بالحقوق، و الحريات يجب أن يؤمنوا بها لمن يختلفون معهم، فلا معني أن تؤمن/ي بحرية لرأيك وحده. هذا هو النفاق. هناك أيديولوجيات سياسية أرفضها بشدة، و مؤسسات اجتماعية أعاديها، لكنني أؤمن بحرية الأفراد أن يكونوا جزءًا مما أرفضه، و أعاديه، و الدفاع عن حقهم في أن يكونوا جزءًا مما يريدون، و أن يدافعوا عما يؤمنون به مبدأ أساسي لي. أنا لم أبدأ هنا؛ لوقت طويل، كنت قومية متعصبة، تؤمن أن من يحمل جنسية مختلفة خائنًا يستحق الاحتقار! يندر أن نبدأ بالحب، و القبول، و احترام الاّخرين، و حقوقهم، لكن إن بقينا حيث بدأنا، فحتمًا سيأتي يوم، و نحمل إثم ظلم أحد، و نحن نحسب أننا نمتلك الحق.
          أظن أنني داخلي، ما زال هناك الكثير من الازدواج في مكان ما، لكنني أريد أن أراقبه دومًا، و أسيطر عليه؛ حتي لا أظلم أحدًا.
          ربما عليك أن تتساءل/ي أيضًا : "بحقوق من تؤمن/ين؟"، "لماذا؟"، "ألأن حقه/ا يتفق مع معتقداتك؟ أم لأنه/ا إنسان/ة؟"