(هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).
كثير من أتباع و رجال الديانات المختلفة
يدعون كثيرًا أن دياناتهم مطلقة، لكنهم علي أرض الواقع يتصرفون علي أنها نسبية دون
وعي منهم. في أوقات كثيرة في حياتي، ظلمت الدين؛ لأنني كنت أراه ظالمًا، و لم
أنظر للإطار التاريخي و الاجتماعي الذي ظهر فيه الدين أو مورس. حتي توصلت إلي فكرة
أن الدين إطار اجتماعي، و تاريخي إلي حد كبير، و أن أحكامه نسبية لا مطلقة، و ذلك
جعلني أكثر عدلاً في نظري، و تقيمي للديانات المختلفة، خاصة في أحكامها التي تعتبر
في هذا الوقت التاريخي، و هذا المجتمع ظالمة.
سيصدم الكثيرون عبارة أن الدين نسبي، و
سيهاجمون بأن أحكام الدين مطلقة لا تتغير، لكن هذا يختلف عن الواقع. صحيح أن
كثيرًا من أحكام الدين ثبتت في أوقات تاريخية، و مجتمعات مختلفة، لكن الكثير من
أحكام الدين تغيرت من مجتمع لاّخر، و من وقت لاّخر. الأزهر ( و هو أكبر مؤسسة سنية
في العالم الإسلامي) رفض مثلاً فكرة ملك اليمين عندما عادت للظهور منذ عدة سنوات،
و قال أن مرتكبيها زناة، رغم أن ملك اليمين كان مقبولاً كصورة من صور النكاح في
الإسلام. الأزهر تبني وجهة النظر التي تري أن المجتمع تغير، و لا يمكن قبول عودة
نظام نكاح كهذا فيه. رجال الدين الشيعة في إيران مثلاً تقبولوا فكرة التحول
الجنسي، و تعتبر إيران الدولة الثانية عالميًا في التحول الجنسي؛ مثل هذا الرأي لم
يكن ليقبل في السابق من قبل رجال الدين الشيعة. حتي كثيرًا من الأحكام الدينية
للشيعة كزواج المتعة المرفوضة تمامًا للسنة يمكن تفسير وجودها بالإطار الاجتماعي
الذي نشأت فيه الذي يعتبر أكثر تقبلاً لأفكار اجتماعية منفتحة عن الإطار الاجتماعي
للمجتمعات السنية. حتي في المجتمعات السنية، انتشار الفكر الوهابي في السعودية
مثلاً، مقابل الفكر المالكي في تونس، مرتبط بالاختلاف التاريخي للمجتمعين إلي حد
كبير.
الإطار التاريخي، و الاجتماعي حدد كثيرًا من
الاختلافات بين ديانات متقاربة مثل الديانات الإبراهيمية، كما أنه حدد الاختلافات
بين المذاهب المختلفة داخل هذه الديانات. مثلاً الكاثوليكية ترفض الزواج بين أبناء
العمومة، و تعتبره زنا محارم، لكن هذه الصورة للنكاح مقبولة لدي الأورثوذكس؛ لأن
المجتمعات الأورثوذكسية (كمصر) شاع فيها زواج الأقارب تاريخيًا، بينما رفض تمامًا
بالنسبة للمجتمعات الكاثوليكية (كروما) تاريخيًا، و نظر إليه بتقزز. اليهودية
مثلاً تلزم المرأة التي ترملت بالزواج بأخ زوجها جبرًا عليها و علي أخ الزوج،
بينما تري المسيحية ذلك زنا محارم، و يقبله الإسلام، لكن لا يلزم به. هذا الاختلاف
نابع من اختلاف المجتمعات الثلاث. المجتمع اليهودي ظل لفترة طويلة يضطهد المرأة، و
لم يكن للمرأة فرصة لأن تعيش بدون الزوج، و كانت المرأة ستتعرض للإهانة، و الخدمة،
و الاستغلال إلم تجد زوجًا مسؤولاً عنها في ذلك المجتمع. أما المجتمعات العربية
البدوية، فكان للمرأة قدرة مالية فيها إلي حد ما، و كان شائعًا فيها الزواج من
أرملة الأخ، لذلك قبل الإسلام هذا الزواج، و لم يفرضه. أما المجتمعات المسيحية خاصة
الغربية، فقد اعتبرت الزواج بمثابة امتداد أبدي للأسرة؛ لذلك رأت الزواج من أخ
الزوج بمثابة زنا محارم. تعدد الزوجات مثلأً وجد في الإسلام، و اليهودية، و رفض
رفضًا باتًا في المسيحية؛ لأن المجتمعين العربي البدوي، و اليهودي قبل فيهم
التعدد، و استقر كمؤسسة اجتماعية، بينما كان مرفوضًا تمامًا، و فكرة غريبة عن
المجتمعات المسيحية قبل المسيحية.
حتي الأحكام الجنائية في اليهودية، و
الإسلام يمكن بسهولة رؤية الإطار التاريخي، و الاجتماعي خلفها. كثير من الأحكام
الإسلامية مثل الرجم للزناة، و الجلد، و قطع اليد للسارقين، و القصاص من القاتل أو
الفدية كانت موجودة في المجتمع العربي البدوي قبل الإسلام أو في المجتمعات
اليهودية. كل ما أضافه الإسلام (و هي إضافة ليست صغيرة) هو وضع قيود قوية علي
تنفيذ هذه الحدود، و إثبات الجريمة فيها.
حتي الأديان الغير إبراهيمية، ترتبط
فيها الأحكام الدينية بالإطار الاجتماعي. المجتمع الهندي مثلاُ تقبل تاريخيًا قبل
الاحتلال الإنجليزي المثلية، و التحول الجنسي؛ لذلك فكثير من طوائف الهندوسية تبنت
المثلية، و التحول الجنسي، و جعلتهم جزءًا من
العبادات الدينية.
هل تعني نسبية الدين أنه غير منزل من إله بل
مجرد اختراع بشري طبقًا للإطار التاريخي و الاجتماعي؟ ليس بالضرورة؛ لأن الإله لن
يختار أن ينزل دينًا لا يناسب المجتمع، و اللحظة التاريخية التي أنزل فيها. أي دين
سيختلف جزريًا مع عادات و تقاليد المجتمع، و طبيعة اللحظة التاريخية مصيره الفشل،
و حتمًا سيموت، بل ربما لن يقبل من المجتمع أصلاً. المصلحون الاجتماعيون لا يصدمون
المجتمع بتغييرات جزرية مرة واحدة، بل يحاولون تغييره علي مراحل، و هناك أمور قد
لا يحاولون قط طرحها مهما اّمنوا بها حتي لا يرفض المجتمع التغيير جزريًا. التغيير
أيضًا في لحظات معينة قد يكون مسببًا لمزيد من الألم، لا تخفيفه. الإله –في التصور
الديني- ليس أقل فهمًا من المصلحين الاجتماعيين، و لا يمكن أن ينزل دينًا يتناقض
جزريًا مع المجتمع؛ لأنه يعلم أن المجتمع ببساطة لن يتبعه، أو في أفضل الفروض
سيتلاعب به ليجعله علي مقاسه.
فكرة نسبية الدين تعلمنا درسين؛ الدرس
الأول هو ألا نحكم علي الدين خارج نطاقه
الزماني و الاجتماعي. علي سبيل المثال: لا يمكن أن نحاكم الإسلام علي دموية الحدود
الإسلامية بمعاييرنا اليوم لحقوق الإنسان؛ لأنها ببساطة كانت جزءًا من النظام
القانوني البدوي و اليهودي قبل الإسلام. لا يمكننا أن نحاكم اليهودية مثلاً
لأحكامها الجائرة بمعايير اليوم علي حقوق المرأة؛ لأن المجتمع اليهودي أصلاً كان
وضع المرأة فيه مزريًا. لا يمكننا أن نحاكم المسيحية مثلاً علي غياب فكرة الطلاق
فيها؛ لأن المجتمعات التي أنزلت فيها المسيحية كانت فكرة الطلاق، و حل رباط
الزوجية غريبة جدًا عليها.
الدرس
الثاني هو ألا نؤمن بأن أحكام أي دين لا يجب أن تتغير بتغير الظروف الاجتماعية، و
الإطار التاريخي. بعض الأحكام الدينية عادلة إلي حد كبير في إطارها الزمني و
الاجتماعي، و جائرة تمامًا خارجهما. هل يجب مثلاً أن نظل نطبق قسمة المواريث
الإسلامية؛ حيث يحصل الذكر علي حظ أنثيين؟ هذه القاعدة سببها الاجتماعي هو مسؤولية
الرجل عن الإنفاق علي الأسرة في المجتمع البدوي علاوة علي أنها تعد أصلاً تطورًا
في ظل نظام اجتماعي أهدر حق المرأة في الذمة المالية المستقلة. لكن اليوم نسبة
عالية من الأسر الأكثر فقرًا في مصر تتولي امرأة إعالتها تمامًا لا رجل. اليوم،
فكرة مساواة المرأة بالرجل في الحقوق، و الواجبات صارت فكرة مطبقة في كثير من
المجتمعات. هذا نموذج واحد عن تغيير المجتمع، و كيف يؤثر علي مدي عدالة قاعدة
دينية في دين معين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق