(هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).
منذ
عصر التنوير الأوروبي و مع ظهور الأفكار عن الدولة الحديثة (و بخاصة أفكار روسو عن
العقد الاجتماعي) تم الترويج و التصديق في
أسطورة دولة القانون التي تستمد مشروعيتها من موافقة الأغلبية (ما يظن أنه
الديمقراطية). اّمنت أوروبا بالأسطورة، و عملت علي تحقيقها، و مع بدء عصر
الاستعمار، ثم النهضة -التي صاحبت مقاومة الاستعمار- في الدول النامية، تأثرت
النخب في الدول النامية بالفكر الأوروبي، و تدريجيًا اّمنت الدول النامية بأن طريق
النهضة هو إعادة بناء دولها بطريقة مشابهة لبناء الدول الأوروبية الحديثة؛
بالديمقراطية، و عماد دولة القانون. كل
ذلك ليس بالضرورة سلبيًا، بل ربما –من جوانب محددة- يعد تأثيرًا إيجابيًا للفكر
الأوروبي علي فكر الدول النامية، لكن الكارثة هي الطريقة التي تم بها تطبيق، إعادة
بناء كثير من تلك الدول.
كثير من الدول التي إدعت أنها تبنت فكرة
"الدولة الحديثة" -التي وضع أسسها فلاسفة عصر التنوير الأوروبيين وعلي
رأسهم روسو- قامت ببناء هيكل ديكتاتوري مقنع بديمقراطية زائفة، أو ديكتاتورية
مباشرة. و حتي عندما إدعت تلك الدول تبني مفهوم "العقد الاجتماعي" أو
"دولة القانون" قامت بتفصيل القانون ليصير ملائمًا للإبقاء علي ملامح
الدولة العتيقة الديكتاتورية. نماذج ذلك كثيرة جدًا في أفريقيا و أمريكا اللاتينية
و الدول العربية في عصر ما بعد الاستقلال. و لكن ما يعنينا هنا هو مصر.
مصر
بالذات حالة دراسة ثرية جدًا. مرت مصر ببناء الدولة الحديثة علي الأفكار
الأوروبية. شهدت مصر فترة تحول نسبي نحو شيء من الديمقراطية في العصر الملكي، و
خسرت ذلك تمامًا بعد الحكم العسكري لمصر منذ 1952، لكن حتي تحت وطئة الديكتاتورية
و الإقرار بحكم الفرد، ظلت أسطورة الدولة و وهم دولة القانون قائمين. و حتي هذه
اللحظة هناك من يدافعون عن الإيمان بأن مصر دولة قانون.
هؤلاء
يؤمنون بأكذوبة روجت طويلاً، و صدقناها. و ليسوا جميعًا بلهاء أو جهلاء، بل أزمة
بعضهم أنهم متعلمين و مثقفين! تعلموا أن يفكروا و يؤمنوا بالنظريات الفكرية و
السياسية الأوروبية السائدة عالميًا (حتي اليوم) عن الدولة و القانون، و الأزمة أن
يأتي التصديق و الإيمان بهذه الأفكار و الإقتناع أنها تنفذ، بدون النظر للحظة إلي
الواقع. ليس الخلل في الأفكار، لكن في الحكم علي الواقع بموجب الأفكار. الأفكار
مهمة في تقرير كيف يجب أن يكون الواقع، لا للحكم في كيف هو بالفعل.
واقع
الدول الديكتاتورية أكثر تعقيدًا بمراحل. الدولة الديكتاتورية الحديثة دولة بها
قانون. نادرًا ما تفتقر دولة ديكتاتورية لقانون، أو تعمل بشكل خارج عن
"المشروعية". هذه الدول تفصل
قوانيها حتي يكون فيها القمع و الظلم مشروعين. مصطلح "ترزية القوانين"
المصري الشهير يشير إلي طبيعة القوانين التي تضعها الدولة الديكتاتورية، إنها
قوانين مفصلة بدقة حتي لا تترك مخرجًا قانونيًا لتحقيق أي هدف يرخي قبضتها الصلبة
علي الدولة. و أشهر مادة قانونية تصف ذلك هي المادة 76 من دستور 1971 و التي إتهمت بأنها فصلت لتكون علي مقاس جمال
مبارك وحده في حال ترشحه للرئاسة.
لكن حتي
القوانين المفصلة يبقي بها ثغراتها التي تسمح للنشطاء السياسيين بالالتفاف عليها،
و ابتكار طرق للمقاومة. مثلاً إن وجد قانون مفصل عن منع التظاهر، يمكن للنشطاء أن
يدعوا لندوة و يهتفوا في الندوة. إن منع التجمهر،يمكن أن يترك التظاهر و التجمهر،
و يلجأ لإجراء معارض، أو أحيانًا إرتداء لون معين أو رسم لوحات معينة. يجد النشطاء
دائمًا طريقًا ليستحدثوا أساليب مقاومة خارج النطاق الضيق لخيوط القانون المفصل.
لذلك
تلجأ الدولة عتيدة الديكتاتورية إلي تحويل القوانين من ثوب ضيق مفصل و محبوك
ليناسب مقاس واحد بعينه، و يخنق ما دونه داخله إلي "لبانة". أجل، لبانة.
تكتسب قوانين الدول الديكتاتورية مرونة اللبانة، حيث يسمح لها أن تتمدد و تنكمش
حسب الطلب. يمكن أن تؤول بأكثر من معني، و يمكن أن يدان بها أو يبرأ الكثيرون. من
أمثلة هذه القوانين "قانون ازدراء الأديان" (يستخدم ضد المثقفين و
الملحدين) و "إهانة رئيس الجمهورية" و "إهانة وزير الداخلية"
و "التجمهر" و "التظاهر" (يستخدمون ضد النشطاء السياسيين) و
"ممارسة الفجور" و "التحريض علي الفجور" (يستخدمون ضد
المثليين و المتحوليين الجنسيين).
قوة
اللبانة الحقيقية أنها يمكن أن تستخدم وسيلة تهديد ضد أي أحد في أي لحظة. إنها
تعطي الدولة حرية أن تتلاعب بالقانون كما يحلو لها فتقرص أذن من تشاء، و تعفو عن
من تشاء، و تدين من تشاء، كما أنها تضيق فرص النشطاء في إيجاد ثقب في الثوب
الخانق.
من خلال
القوانين المفصلة من ناحية و القوانين المطاطة من ناحية أخري تستطيع الدولة أن
تتلاعب بالقانون كما يحلو لها. حينها يؤمن الكثيرون أن الدولة دولة قانون و تطبق
القانون، يدافعون عنها، و يكون دفاعهم مدعومًا بأن كل قضية حكم فيها بموجب
القانون، و هم محقون إلي حدٍ ما (إذا تجاهلنا ما يتم من انتهاكات لقانون الإجراءات
الجنائية و الكفيل بإبطال الدعاوي). لكن هذا يحدث؛ لأنهم يبدأون بتقديس القانون
بدون محاولة نقده أو النظر إلي مدي كونه عادلاً في إرسائه لمباديء عامة أم أنه
يفصل علي مقاس محدد أو بمرونة تسمح بالهرب منه و في ذات الوقت (عند الطلب) الخنق
به.
الدولة
الديكتاتورية الحديثة دولة قانون، لكن قانون مشوه، يفتقر للأفكار الأساسية وراء
القانون أن يكون عادلاُ و منصفًا، و عامًا مجردًا لايستهدف أفراد بعينهم، و لا
يصير لعبة في يد أي طرف يعبث بها كما يشاء. عندما يدافع أحد أمامك عن تطبيق الدولة
الديكتاتورية للقانون، جادله في ذلك، لكن جادله قبل ذلك في تكوين القانون الذي
تطبقه؛ هل هو منصف، و عادل لجميع الأطراف، و عام و مجرد أم مفصل علي مقاس طرف
بعينه أو "لبانة" مطاطة تستوعب بطش السلطة كلما شاءت؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق