(هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).
السجن الفكري ليس فقط أن يعجز العقل عن
التفكير فيما لا يسمح به السجان؛ السجن الفكري أيضًا ألا يستطيع العقل أن يسأل -حتى
عندما يتمرد-إلا من زاوية واحدة. السجن الفكري ليس فقطالعجز عن السؤال في
التابوهات مثل الدين أو الجنس أو السياسة، إنما هو أيضًا ألا يستطيع العقل
المتسائل أن ينظر إلا من زاوية واحدة حتى،وإن كانت هذه الزاوية هي التمرد على
المؤسسات القائمة، والأفكار التقليدية. السجن الفكري هو سجن الأسئلة، وهو كذلك
تشويش عين العقل بحيث لا تري-حتى عندما تسأل-إلا الأسئلة التي دفعها السجان صوب
سؤالها.
يعتقد المتشككون في الدين، و"المتمردون" على النظم الاجتماعية أو
الدينية أو السياسية أنهم في قمة المصادمة، والقتال، والحرية عندما يسألون أسئلة
معينة أو يهاجمون الدين أو المجتمع أو الدولة علي أشياء معينة يظنونها أساسية، ومحورية
لهذه النظم. يفرح الداعي لخلع الحجاب عندما يجد نفسه متشككًا، ومتسائلا فيما يظن
أنه قيد أساسي رجعي في الدين علي المرأة، ويزهو بنفسه أكثر، وأكثر عندما يكتب
مقالاً أو حالة فيسبوكية يسرد فيها كيف يسلب الإسلام المرأة حريتها، وحقها في جسدها
بفرضه للحجاب أو النقاب عليها. وتنتفخ المناضلة لحقوق المرأة عندما تهاجم سماح
الإسلام للرجل بالتعدد، وتردد أن الدين يغري الرجل بالجنس، وتسرد الدليل من وجود
الجنس، وحور العين في الجنة. وتثبت لنفسها تحديها لمروجي أراء أقلية دينية متخلفة،
عندما تتحدي الدعاة المتخلفين الذين يجيزون، ويشجعون ختان الإناث، لتقليل رغبتهن
الجنسية. ينتشي المدافع عن حقوق المثليين عندما يتساءل عن أسباب رفض الدين
الإسلامي للمثلية، ويسرد أسبابًا كثيرة يدافع بها عن المثلية، وتخادع من ينظرون
إليه، بحيث يظنون أنه يصطدم مع أعتي مقدسات المجتمع والدين، ويطرح سؤالاً قويًا عن
غياب العقلانية، والعدالة في رفض الدين للمثلية.
يتفشخر المسيحي المنشق عن الكنيسة
الأرثوذكسية بأنه جرأ أن يسأل:لماذا لا تبيح الكنيسة الطلاق إلا في حالات محددة
قليلة للغاية مرتبطة بالجنس والإنجاب؟ ولماذا الجنس هدفه الإنجاب فقط؟ ويمتدح
المسيحي المتشكك نفسه -أيًا كان مذهبه-إذا سأل: لماذا الجنس المثلي ضد الطبيعة؟ أو
لماذا الزواج بين مختلفي الدين لا يحقق الوحدة الكاملة مثل الزواج بين المتفقين في
الدين؟
كل هؤلاء يفرحون جدًا بما يظنونه تمردًا، وقدرة خارقة علي تحدي المجتمع ومواجهة
الدين.هؤلاء يفخرون جدًا بقدرتهم على السؤال في تابوهات المجتمع، والدين، وأنهم لا
يخافون مواجهة أنفسهم أو قمع المجتمع. بهذه الأسئلة التي يطرحونها يظنون أن عقلهم
في قمة التمرد، وأنه هشم قيوده، وخرج يعدو حرًا خارج الزنزانة، لكن
هل عقلهم فعلاً حر؟
من الخارج، هذا ما يبدو، ليس لهم فقط، إنما
حتى للمهاجمين الشرسين الذين يريدون الانقضاض عليهم لإنقاذ الدين من هذه الأسئلة
التي أفلتت من عواميد الزنزانة. هذا ما يبدو، لكن ما يبدوهو صورة ناقصة. إنهم فعلا
عرفوا شيئًا من طريق الحرية بجرأتهم أن يسألوا أسئلة في الدين أو الجنس أو السياسية،
لكن عقلهم لم يذق الحرية التي يظنونها؛ عقلهم ما زال داخل الزنزانة؛ لأن أسئلتهم
منحازة.
ما معني انحياز الأسئلة؟
انحياز الأسئلة هو قيد صلب ماكر شفاف يوضع
علي العقل بحيث لا يراه، ولا يدركه السجين بسهولة، وهو يحاول تهشيم قيوده ليفر. انحياز
الأسئلة هو أن يكون تفكير الفرد ذاته في السؤال يسبقه افتراضات معينة، تمنع السؤال
أن يكون حرًا، وتفرض عليه أن يأخذ شكلاً محددًا، وأن ينظر من زاوية محددة. أعلم أن
هذا التعريف يظهر معقدًا، وصعبًا، لكنه سيفهم بسهولة إن حللنا سؤالا تلو الاّخر من
الأسئلة "المتمردة" المذكورة فوقًا.
السؤال الأول كان سؤال الداعي لخلع الحجاب،
تساءل الداعي لخلع الحجاب عن سبب فرض الإسلام للمرأة أن تخفي جسدها بحجاب أو
بنقاب، لكنه لم يسأل أبدًا لماذا فرض الإسلام علي الرجل ارتداء ما يستر ما بين
البطن لأسفل الركبة. تساءلت المناضلة لحقوق المرأة عن سبب سماح الإسلام للرجل
بالتعدد، وعن سبب وجود جنس، وحور عين في الاّخرة، وحاولت التصدي لختان الإناث كشكل
من أشكال التخلف، لكنها لم تتساءل لماذا لم يسمح الإسلام للمرأة بالتعدد أو لماذا
لا يوجد حور عين رجالا، ولم تحاول الهجوم على ختان الذكور. لقد افترضت أن الدين أخطأ
في السماح بالتعدد، وفي إيجاد حور عين في الاخرة. لم تحاول أن تنظر من زاوية تنتقض
فيها الدين مع القبول بالتعدد أو بإيجاد ذكور يوفرون للمتعة الجنسية في الاخرة. ودافعت
عن الأنثى من تشويه جسدها بالختان، لكنها لم تفعل الشيء نفسه –بل لم تشك فيه أصلاً
أو تتساءل عنه-بالنسبة للذكر. تساءل المدافع عن حقوق المثليين عن سبب كون المثلية
خطأ في وجهة نظر الدين الإسلامي، لكنه لم يفكر أن يسأل عن سبب كون الغيرية صوابًا
في الدين. لقد افترض من البداية أن الغيرية صواب، وبدأ يدافع عن صواب المثلية. الشيء
نفسه فعلا المسيحي المتشكك عندما تساءل عن سبب كون المثلية في وجهة نظر الدين
المسيحي "ضد الطبيعة"، لكنه لم يتساءل عن سبب كون الغيرية بين العقيمين
شيئًا "طبيعيًا" حتى عندما لا يستطيعون الإنجاب. عندما تساءل المسيحي
الأرثوذكسي المنشق عن سبب عدم سماح الكنيسة بالطلاق إلا في حالات معينة منها عدم
الإنجاب أو كون الجنس هدفه الإنجاب، لم يسأل عن سبب سماح الكنيسة للعقيمين بالزواج؟
افترض أن سماح الكنيسة للعقيمين بالزواج شيء عادي، رغم أنه يتناقض مع فكرة أن
الجنس هدفه الإنجاب التي تعتنقها الكنيسة. وعندما تساءل المسيحي المتشكك عن سبب
كون الزواج بين مختلفي الدين لا يحقق الوحدة الكاملة، لم يفكر أن يسأل هل الوحدة
الكاملة صواب أم خطأ؟ ولم يفكر أن يسأل إن كان الزواج بين متفقي الدين صوابًا أم
خطأ؟ لم يشك مثلاا أنه مضر للأطفال أن يتربوا في بيت بلا تعدد فكري، وديني.
لماذا لم يسألوا هذه الأسئلة؟
لأنهم ببساطة، لم يتحرروا بعد من السجن،
مازالوا تحت قيد انحياز الأسئلة. الداعي لخلع الحجاب متأثر بنظرة
اجتماعية تركز على جسد المرأة، وما تلزم بارتدائه، وتهمل جسد الرجل. المناضلة
لحقوق المرأة متأثرة بأفكار ثقافية ترفض التعدد، وتعتبر الجنس نجاسة لا يجب أن
تكون موجودة في الاّخرة، ولا تنظر للأعضاء التناسلية للذكر كما تنظر لأعضاء
الأنثى. المسيحي، والمسلم اللذان يتساءلان عن نظرة الإسلام، والمسيحية للمثلية
غارقان في طريقة تفكير المجتمع، والدين بحيث لا يسعهما أن يسألا أصلا عن الغيرية
التي تربا أنها هي الأساس،والطبيعة التي لا تقبل الشك. المسيحي المتشكك مشفوط داخل
نظام فكري يري الزواج هو الوحدة، ولا يتصور أبدًا أنهما شيئان مختلفان، وليسا
واحدًا. المسيحي الأرثوذكسي المنشق اعتاد تمامًا من الكنيسة تزويج العقيمين، فلم
يكن له أن يفكر أبدًا أنه قد يكون مناقضًا لفكر الكنيسة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق