(هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).
ربينا على صورة مزيفة مشوهة مثالية عن الجمال. ربينا على
أساطير قبيحة كاذبة عنه والخير، وما يجب أن نكون. ربينا على القمع، والقهر باسم
أكذوبة "الكمال"، وتحولنا علي يد الأكذوبة لقامعين، ومجرمين مخدوعين
يحسبون أنهم يبلغون الجمال بينما يغوصون في القبح، يظنون أنهم يسعون قبل الخير
بينما يغرقون في زرع الشر. ربينا أن الجمال واحد، ربينا أن الجمال الكمال، ودفعنا
نحو كراهية كل ما هو ناقص، وكل ما هي حي، وحقيقي؛ لأجل عبادة صور مزيفة للجمال
المثالي، والخير. ربينا على القمع، والكراهية، والجرح، والشر باسم تقييم واختيار
الجمال، والخير.
الطريقة التي
تربينا بها في المدرسة، البيت، المؤسسات الدينية، الجامعات، النوادي الفنية،
الإعلام بكل أشكاله، وبغض النظر عن مصدره، وجنسيته جعلتنا نري شيئًا واحدًا فقط،
وهو أن الجمال، والخير في الكمال الشكلي، والكمال الأخلاقي، والكمال الاجتماعي. لا
يفرق كثيرًا ما هي الصورة التي تعتبر كمالاً سوآءا في الشكل أو الأخلاق أو في
المكانة الاجتماعية، فأيًا كانت الصورة، فالفكرة التي تكمن خلفها واحدة
"الكمال". سأشرح ما أعنيه أكثر بأمثلة لكن أولاً سأشرح ما هو
"الكمال الاجتماعي". الكمال الاجتماعي هو أن تكون حياة الفرد، وما يصل/تصل
إليه متطابقًا مع صورة اجتماعية محددة للحياة الاجتماعية، والنجاح. على سبيل
المثال، إذا كانت الصورة الاجتماعية للمرأة الناجحة في الطبقة فوق المتوسطة
المصرية هي المرأة التي تكون أسرة مستمرة، ولا تطلق، وتستطيع أن تربي أبناءها في
أفضل مدرسة، وتتفوق في عملها، فإن المرأة التي تحقق كل ذلك هي المرأة "الكاملة"
التي تصل للكمال الاجتماعي. أما من تعجز عن تحقيق ذلك أو تفشل في جزء منه، فإنها
تعتبر "ناقصة"، ودون الصورة الاجتماعية المرغوبة.
"الكمال
الشكلي" هو أن يكون الفرد متحليًا/متحليةً بمواصفات الشكل الجسماني، والمظهر
الخارجي الملائم لصورة الجمال الشكلي الذي يحددها المجتمع. على سبيل المثال، إذا
كانت صورة المرأة الكاملة شكلاً في المجتمع السوداني هي المرأة السمينة، ذات
تضاريس الجسد الممتلئة، فالمرأة التي تتحلي بهذا الجسد هي المرأة التي تتصف
بالكمال الشكلي أما المرأة التي النحيفة جدًا، فهي تعتبر بعيدة كل البعد عن الكمال
الشكلي، و"ناقصة".
"الكمال
الأخلاقي" هو أن يتحلى الفرد بمواصفات السلوك التي يفضلها، ويفرضها المجتمع
الذي ينتمي/تنتمي إليه. على سبيل المثال، الرجل الذي ينتمي لمجتمع مسلم محافظ،
سيكون كاملاً أخلاقيًا إذا أدي الفروض والسنن الإسلامية، وابتعد عن كل ما يحرمه
الإسلام، وسيكون قيام أي فرد بسلوكيات تناقض النظام الأخلاقي الإسلامي بمثابة
نقصان، وبعد عن صورة الكمال الأخلاقي. هذه الصورة للكمال الأخلاقي ليست حكرًا على
المجتمعات ذات الخلفية الأخلاقية الدينية، بل هي سمة أي مجتمع. المجتمع الياباني
مثلاُ مجتمع بعيد تمامًا عن التدين، لكن لديه نظام أخلاقي مرتبط بقيم الشرف،
والولاء، ومن يطابق هذه القيم سيصير كاملاً أخلاقيًا أما من يخالفها فسيكون في
منطقة النقصان.
الأزمة الحقيقة في فكرة "الكمال"، ووهمها أنها
تكمن خلف كثير منالقمع، والظلم، والاضطهاد،والكراهية،والخداع، والقبح الإنساني. بل
إنها كذلك تعوق الإنسان من رؤية الجمال، والخير في كثير من صوره التي لم يتربى أن
ينظر إليها. هذه الصور تحبسنا داخلها بحيث لا نستطيع أن نري سواها، بل وتعمينا عن
مجرد النظر قبال غيرها. على سبيل المثال، صور الكمال الاجتماعي تمنع كثيرًا من
البشر من رؤية فرص نجاح، وتحقيق للذات تناسبهم لم يضعها المجتمع ضمن اللوحة. إذا
كان هناك رجل مثلاً يريد أن يصير معلمًا لأطفال، ويبتكر طرق تدريس جديدة في مدرسة
ابتدائية بدلاً من العمل في شركة متعددة الجنسيات،واقتناء سيارة، وشقة، فإنه لن
يحقق حلمه؛ لأنه يعلم أن حلمه لن يجعله بتفادي نظرات النقصان التي توجه إليه من
المجتمع. بل الأسوأ أن المجتمع سيمنعنا من التفكير –مجرد التفكير-أن التعليم في
مدرسة ابتدائية قد يكون عملاُ مساويًا لرئاسة أكبر شركة متعددة الجنسيات في العالم؛
لأننا تربينا أن نري صورة واحدة للكمال الاجتماعي.مثال اّخر، هو كون المجتمع يفرض
لفكرة النجاح في العلاقات أن يتمكن الفرد من إيجاد علاقة عاطفية ناجحة، ولا يسمح
المجتمع للفرد الذي يناسبه أكثر أن تكون علاقاته كلها صداقات قوية أن يشعر بالنجاح
في علاقاته الاجتماعية أو يرضي بنفسه أو حتى يفكر أنه قد يكون مناسبا له أن يبقي
على علاقات صداقة دون حب عاطفي؛ لأنه بدون علاقة عاطفية سيبقي ناقصًا في نظر
المجتمع.
القمع، والكراهية، والعمي الذين يسببهممفهوم
"الكمال" لا يطفحان على الاّخرين فقط، بل يطفحان كذلك على الذات. المرأة
السمراء السمينة ذات السعر الأسود الخشن القصير التي ولدت في مجتمع يقدس صورة
المرأة الشقراء الرشيقة ذات الشعر الناعم الطويل قد تكره نفسها، وتكره جسدها،
وتقمع نفسها بمحاولة مواراة جسدها في ملابس تجعلها تبدو أنحف، وقد تصبغ شعرها، وترتدي
عدسات ملونة، وتفرد شعرها بالمكواة كل يوم. إنها تقمع جمالها في محاولة منها
لإرضاء صورة الكمال الشكلي، وتعجز أن تقف أمام المرآة لتري بعينين لم يعميهما
المجتمع جمالها. المجتمع يجعلها تعجز عن رؤية الدفء والاحتواء الذي يكمن في حضن
الجسد الممتلئ،ولون البشرة السمراء، والحياة التي تنبض في الشعر الخشن الحر. المجتمع
يجعلنا نعجز أن نري أو نشعر إلا بما يريدنا أن ننظر إليه، ونشعر به. المجتمع
يحرمنا حق رؤية الجمال، وتذوقه، وعشقه إلا إذا كان يتصف مع معاييره للكمال.
هذا يظهر بجلاء
أكثر في مفهوم "الكمال الأخلاقي"؛ فالمجتمع –أي مجتمع-يضع معايير ثابتة
لما هو أخلاقي، ويجعل الأفرادعاجزين عن رؤية سواها، أو التفكير في احتمال وجود
خيارات أخلاقية أخري. على سبيل المثال، النظام الأخلاقي التقليدي الغربي يري أن
التعدد خيانة للعلاقة الزوجية المقدسة. الفرد الذي تربي في مجتمع غربي لن يفكر قط
أنه قد يكون هناك أفراد اّخرين في علاقات زوجية متعددة لكن بها حب، وعطاء، ووفاء
بمفهوم مختلف عن المفهوم الكاثوليكي للوفاء.والأسوأ أن مفهوم "الكمال
الأخلاقي" يجعل الأفراد يكرهون أنفسهم، ويرفضونها؛ لأنهم مهما حاولوا أن
يصلوا لأن يكونوا متفقين تمامًا مع المنظومة الأخلاقية للمجتمع سيفشلون. يلجأ الأفراد
تحت وطأة قمع منظومة "الكمال الأخلاقي" لتصرفات مشابهة لتصرف السمراء
السمينة؛ إنهم يلجؤون لرسم صورة كاذبة خارجية لهم أمام المجتمع؛ منظومة
"الكمال الأخلاقي" تكمن خلف "النفاق الاجتماعي".
هل يعني ذلك أن الأفراد لا يجب أن يحاولوا أن يرتقوا
أخلاقيًا؟ لا، ما أعنيه أن الأفراد يجب أن يتمتعوا بحرية النظر خارجسجن المنظومة
الأخلاقية للمجتمع؛ بحيث يستطيعون رؤية الخير والشر في أمور أخري غير التي يفرضها
المجتمع. والأهم ألا يقيم الأفراد بعنف، وتحقير، وإذلال، ويجبرون على النفاق لأجل
أن يصلوا لصورة أحادية للجمال الأخلاقي يفرضها المجتمع.
الأزمة الحقيقية في كل منظومات الكمال أنها تمنع رؤية جمال
الأفراد بنقصانهم، وحياتهم؛ فكل ما هو حي ناقص.هناك جمال حقيقي فيما هو حي، وناقص،
هناك جمال حقيقي في جروح الجسد، في الألم، في الخطأ، بل والخطيئة الإنسانية، هناك
جمال في الحياة الاجتماعية المختلفة بكل ما يمكن أن يحدث فيها من غلطات سوآءا على
المستوي العملي أو الشخصي. هناك جمال فيما هو حي. منظومة الكمال تعمينا عن رؤية
هذا الجمال، تجعل كل واحد/ة منا ضريراً/ضريرةًلا يري/تري الجمال في نفسه/ا الناقصة
قبل أنفس الاخرين.
ذق/ذوقي طعم النقصان؛ أنتَ ناقص/ة،أنت حي/ة؛أنت
جميل/ة.
أ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق