الجمعة، 16 ديسمبر 2016

لماذا نحيا؟-منشور بمجلة الجامعة الأمريكية AUC TIMES عدد ديسمبر 2016

(هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).
     
        قبل أن نستطيع سؤال أنفسنا: "لماذا نحن هنا؟"، نجد المجتمع يلقي أمامنا الإجابات التي تعجبه عن واجبات، وإنجازات يجب أن نصل إليها في حياتنا ليكون لها معني، وليكون لنا قيمة. قبل أن نفكر أو نشعر نجد أمامنا فروض جاهزة، وصورًا نقارن أنفسنا وحياتنا بها، ونخضع، ونخضع أنفسنا لها، ونحاكم أنفسنا بها. المجتمع يقول لنا دائمًا أن قيمتنا في الإنجازات التي نحققها، وأن استحقاقنا للحياة يكمن في مقدار ما نصل إليه من الصورة التي يرسمها للنجاح. عندما نعجز عن الإنجاز، ونفشل في الوصول إلى هذه الصورة أو حتى جزء منها، نحاكم أنفسنا، نقارنها بمن وصلوا، نكرهها، ننكر عليها قيمتها، نحكم على حياتنا بغياب المعني، وأحيانًا نقرر أن نسلب أنفسنا حق الحياة.
          نموذج على ما أعنيه هو الفرد الذي يقرر مجتمعه أن النجاح في التفوق الدراسي، والرياضي، ولاحقًا في رئاسة شركة متعددة الجنسيات، والزواج بامرأة من مستوي اجتماعي محدد، واقتناء سيارة ومنزل غاليين، وتعليم الأبناء في مدارس دولية. هذا الفرد إن فشل في هذه الجوانب، سيحاكم نفسه، ويقارنها بمن وصوا، وسيكرهها، وينكر عليها قيمتها؛ لأنها تدنو صورة النجاح، وسيحكم أن حياته بلا معني، وقد يقرر أن ينهيها؛ لأنها لا تستحق. هذا النموذج ليس حكرًا على مجتمع ذا فكر معين. هذا النموذج مجرد مثال علي ما تفعله شتي المجتمعات بشتى اختلافاتها، ومعاييرها للنجاح في الأفراد. إنها تجعل قيمة الفرد في إنجازاته -بغض النظر عما تعرفه كإنجازات-، وتجعل معني حياته فيما تزنه بميزان أفكارها عن النجاح من إنجازات.
لسنوات طويلة كنت خاضعة لتلك المنظومة، ولا أظنني أستطيع القول بثقة وفخر أنني تحررت مما غرس داخلي عميقًا جدًا من قهرها. لسنوات طويلة، هرست نفسي –وما أزال-لأحقق أكبر قدر من الإنجازات بمعايير المجتمع. حاولت الحصول علي أكبر عدد من الجوائز الأدبية، والعديد من الشهادات الدراسية في وقت واحد، والتفوق فيها جميعًا بدراجات لا يستطيع إلا القليل جدًا المنافسة معها، علاوة علي نجاح مبهر في شبكة علاقاتي الاجتماعية. كنت وما زلت أعاني من إدمان العمل الذي شجعني عليه المجتمع على حساب تدمير نفسي لأرضي معاييره عن النجاح. وفي أوقات معينة كانت رغبتي في النجاح مرتبطة بمحاولتي لمواراة "فشلي" بمعايير المجتمع لأنني ضمن أقلياته التي ينظر إليها باحتقار. وكنت أسقط في اكتئاب قاسٍ عندما أفشل في أي شيء حتى بمقدار صغير. لم أدرك إلا متأخرًا جدًا أنني داخلي غرس المجتمع فكرة أن قيمتي كإنسانة تكمن في إنجازاتي، وأن معني حياتي يوزن بهذه الإنجازات.
              كنت أسقط في أزمة وجودية كلما خف ضغط العمل على أو كلما وجدت وقتي فارغًا؛ لأنني كنت أشعر أنني لا أنجز، وبذلك لا قيمة لي، وحياتي بلا معني. وقابلت بشرًاينظرون لأنفسهم باحتقار، وكراهية، ويرفضون فكرة استحقاقها للحياة؛ لأنهميحكمون على أنفسهم بأنهم فشلة في علاقاتهم الاجتماعية أو العاطفية أو في العمل أو في دراستهم أو في كل ذلك معًا. في وقت ما بدأت أقترب من فكر مسيحي يقول إن قيمة الإنسان مستقلة عن أعماله، وأن قيمته في ذاته. هذه الأفكار ساعدتني كثيرًا رغم أنني وجدت اختلافات عميقة بيني،وبينها؛ لأنها تبني قيمة الإنسان على أنه مخلوق من مخلوقات الله؛ وهذا يعني أن من لا يؤمن بالله لن يجد قيمة له أو معني لحياته، ورفضت ذلك بشدة، لكن رغم اختلافي مع هذه الأفكار، جعلتني أفكر في قيمتي لأول مرة كشيء مستقل عما أنجزه.
بدأت أفكر أن المعني مرتبط بوجود الحياة. بدأت أفكر أن كل إنسان/ة لحياته/ا معني بمجرد الوجود. فكرت أن ما خلق ألم اضطهاد الأقليات داخل المجتمع هو قيام كل فرد باضطهاد الأقليات في حياته. عندما تقوم تلميذة في المدرسة برفض اللعب مع زميلتها بسبب اختلاف دينها، فهي تخلق معني الاضطهاد بهذا الفعل الصغير. الاضطهاد هو مجموع أفعال صغيرة وكبيرة ضد الأقلية المضطهدة. فكرة مثل فرض نموذج محدد للجمال الشكلي هي نتاج أفعال صغيرة مثل تعليقات الزملاء، والعائلة، والأصدقاء على سمنة المرأة مثلاً، وفرضهم بتعليقاتهم العابرة لفكرة معينة لدي المرأة -أو الرجل-للجمال الشكلي. عندما تلقي/ن بنظرة جارحة لشخص ما بسبب منظره أو ميله الجنسي أو فقره أو عجزه، فأنت تؤكد/ين معني عميق جدًا هو رفض لهذا الشخص، ولما يمثله. على صعيد اّخر، عندما تقترب/ين من شخص مختلف، وتصادقه/تصادقينه، وتتحدث/ين معه حديثًا عاديًا جدًا، فأنت تقاوم/ين منظومة كاملة من رفض الاَخر يفرضها المجتمع.
        مجرد وجود ابن/ة أو صديق/ة أو أخ أو أخت في حياة الأب أو الأم أو الصديقة/ة أو الأخ أو الأخت يخلق معني. مجرد الوجود في حياة الاّخرين يخلق معني مضاد للوحدة. حتى الابنة التي تعاني من العجز التام جسديًا تستطيع أن تمنح والديها بمجرد وجودها معني هو أنهما ليسا وحدهما. مجرد وجودك في حياة من حولك هو معني يدفعهم للحياة، ويملأ الوجود حولهم من الفراغ، ويحميهم من الوحدة.
       كل فعل أو حتى امتناع عن الفعل منك كإنسان/ة هو معني، وتأثير، وأبدي.
كيف يكون المعني أبديًا؟
المعني أبدي؛ لأنه يستمر بغض النظر عن صاحبه/صاحبته. لنعود إلى نموذج التلميذة التي تجرح زميلتها برفضها للعب معها بسبب اختلاف دينها. هذا الفعل الذي قد يظهر صغيرًا أو تافهًا حتمًا سيؤثر في زميلتها، وسيوصل لزميلتها رسالة كراهية من الاّخر. هذه الرسالة قد تدفع زميلتها لترد بالمثل على المختلفين عنها. إذا كانت مسيحية، قد ترفض الاقتراب من طفلة مسلمة أخري تطلب منها اللعب معها. وهذه الطفلة المسلمة التي ستجد نفسها مرفوضة بسبب دينها، قد تعود هي الأخرى، وترفضعندما تكبر التعامل مع مسيحيين. بهذه الطريقة، ينمو، ويكبر، ويستمر رفض الاّخر داخل المجتمع. بهذه الطريقة، يستمر المعني الذي زرعته التلميذة الأولي، ولا يموت حتى مع موتها.
فيالنموذج المعاكس الذي تقوم/ين فيه بمصادقة شخص مرفوض اجتماعيًا بسبب دينه أو جنسه أو عرقه أو ميله الجنسي أو مظهره أو أي تمييز اّخر، فأنت تزرع/ين معني أبديًا؛ لأن هذا الشخص سيجد من يحبه رغم اختلافه عنه، وقد يحاول هو أن يحب، ويصادق اّخرين مختلفين عنه، وهؤلاء الاّخرون قد يحاولون بدورهم مصادقة اّخرين مختلفين عنهم، حتى يترسب في مجموعة معينة فكرة القرب من المختلفين. هنا المعني الصغير الذي زرعته/زرعتيه في المجتمع لا يموت.
         كل ما نفعله حولنا هو معني صغير، وكبير، لكن الواقع هو مجموعة من المعاني الصغيرة، والكبيرة. هناك أوقات يسود فعل إيجابي من الغالبية، فتكون غالبية الواقع إيجابية، وفي أوقات أخري يسود فعل سلبي من الأغلبية، فتصير أغلبية الواقع سلبية، لكن لا يوجد وقت أبدًا ينتهي فيه أثر المعني. مهما كانت غالبية الواقع سلبية، وخلقت أنت معني إيجابيًا، فإن هذا المعني يبقي. ومهما ظننت المعني تافهًا، وصغيرًا، فإنه يبقي، ويؤثر؛ لأن المعني لا يوزن على أي ميزان كالإنجازات التي توزن على ميزان المجتمع. المعني معني، والتأثير تأثير، وكلاهما باقٍ، وأبدي مهما صغر.
بغض النظر عن وزن "إنجازاتك" على ميزان المجتمع، لك قيمة، ولحياتك معني؛المعني ملاصق لوجودك، لمجرد وجودك معني، ومعني وجودك أبدي،
   لك قيمة،
            لحياتك معني،
            لمعناك أبدية،
             استمر/ي في خلق المعني،
             استمر/ي في الوجود،
             استمر/ي في الحياة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق