(هذا المقال بقملي لا بقلم الطفلة).

سجن السوفانة
"بلغتِ يا يسرا!"
قالتها أمي مصدومة، عندما ناديتها من
الحمام لأخبرها أنني بلغت. حسبت الأمر مداعاة فخر ودليلاً على أنني صرت كبيرة.
كانت طريقة تفكير طفلة في التاسعة تريد دائمًا أن تفخر بأنها تكبر.
لم أعرف حينها أن لحظتها سيبدأ جرح طويل
مؤلم، سيتضخم مع السنوات، ولن يشفي إلا بمواجهة، وحرب طويلة داخلي.

بدأت جدتي تشرح لي معني
"غشاء البكارة"، والعذرية. كنت
طفلة صغيرة، لا تفهم كثيرًا، لكنني فهمت أنه شيء داخلي يجب أن أحافظ عليه بأي ثمن.
لم أكن أبالي بتهديدات أمي ألا أتزوج إن فقدته، لكنني خفت عليه؛ لأنني ربما حسبته
يحدد قيمتي. في البداية أصبت بوسواس للحفاظ عليه؛ خفت من الدراجة، من الشطافة، من
المياه، حتى من الهواء عليه!
لم أكن بطابعي طفلة
جبانة، لكنه علمني الخوف، الخوف العميق الذي نعيش به، ويشكل أفكارنا العميقة غصبًا.
في وقت ما، لم أرد أن أتزوج؛ لأنني
رفضت أن أمنحه لأحد. ذلك كان الوقت الذي صدقت فيه بقيمته، و تحديده لقيمتي.
مضت سنوات وأنا أخاف حتى جاءت الثورة.
عندما نثور، نريد التدمير، يحطم غيظنا
ووجعنا خوفنا، وهذا بالضبط ما مررت به. داخلي تنامي شعور بالإهانة، وبالجرح من
كوني جسدًا يريد رجل أن يكون أول من جرب مذاقه. داخلي تنامت قسوة الجرح من كلام
أمي عن قيمة العذرية، وعن قراءتي عن "الدخلة البلدي" والجنون ب "فض غشاء البكارة"، و
"عمليات الترقيع". كل شيء حولي كان يذكرني، و يؤكد لي كم يحدد ذلك الغشاء التافه (الذي
يشبه السلوفانة للحلوى) قيمتي.
شعرت أن كل القيود الموضوعة على
المرأة حجتها هذا الغشاء. لماذا المرأة التي لم تتزوج يضيق عليها أكثر من
المتزوجة؟ لماذا يخنق على المرأة في العودة مبكرًا، وارتداء ملابس محتشمة، ولا
يخنق على الرجل؟ لماذا يرفض المجتمع الاختلاط في "المرحلة الخطرة" بين الذكور والإناث؟ لماذا تلام المرأة على علاقاتها، ويفخر بها
الرجل؟
أفكار المجتمع مثل "العذرية" و "غشاء البكارة"
مجرد طريقة يتحكم بها المجتمع فينا، ويفرض بها أفكارًا غير علمية ولا منطقية علينا
(غشاء البكارة ليس طبيًا قرينة على العلاقة الجنسية أو عدمها). إنها أفكار يضمن
بها أن نفضل خاضعين لما يريد أن يفرضه علينا، ونخاف أن نتمرد عليه. إنها أفكار
تحمي بقاء النظم القمعية، وتحمي غياب العدالة، إنها أفكار نبقي بها التمييز بين
البشر، وقمع الأضعف (في هذه الحالة؛ المرأة).
المجتمع يضخم من غشاء البكارة يجعله شبحًا يرعب به كل امرأة ليفرض
عليها قوانينه. المجتمع يحول العذرية لمعيار يحاكم به المرأة، و
"السلوفانة" لدليله في المحاكمة. يزرع داخل المرأة منذ صغرها الخوف علي
"السلوفانة" يجعلها ترتعد من فكرة خسارة دليل براءتها أمام محكمته.
هذه "السلوفانة" لا توفر له الدليل، و طريقة تخويف المرأة، و حسب
بل و حجة قمعها.
خوف المرأة علي "السلوفانة" يجعلها مستعدة لقبول تحكم
الرجل بحجة حماية دليل "براءتها". الأب أو الأخ بإمكانه أن يمنع ابنته
من الخروج ليلاً أو السفر أو ارتداء ملابس معينة أو الاقتراب من أحد الذكور بحجة
حمايتها من الاعتداء أو حفظها من الفاحشة. هذه الحجة لا تكفي لإقناع المجتمع فحسب
بل أحيانًا حتي المرأة ذاتها. "الاعتداء" و "الفاحشة" في
النهاية ما هما إلا كلمتان تستتر خلفهما "السلوفانة". لهذا السبب هذه
الحماية تقتصر علي المرأة دون الرجل، و تزيد علي غير المتزوجة عن المتزوجة.
كل هذا القمع حجته
الحفاظ على
"السلوفانة"، ليتأكد الرجل الذي يشتريني أنه أول من
ذاقني، ليتأكد أنه أول من لعق الحلوى.
شعوري بالإهانة جعلني أثور، جعلني أود
تحطيم كل ما يقدسونه لهذه الدرجة. أردت ألا أمنح "الحلوى" لأي رجل. لم أرد أن يشعر رجل بزهو أنه أول من فتح السلوفانة، أردت أن
أمزقها بيدي. تمنيت لسنوات أن أقطع غشاء البكارة بنفسي، لكنني كنت أقول لنفسي أنني
سأكون قد هزمت من المجتمع. سيكون المجتمع قد أجبرني أن أؤذي نفسي وأجرحها؛ لأجل
الانتقام منه.
سنوات وأحاول أن أتخطي سجن وجع
"غشاء البكارة" لي. سنوات و أحاول أن أتناسي أفكار المجتمع، وأتحداها كما يحلو لي،
لكن داخلي الوجع مستمر حتى جاء ما أعاد إيقاظ جرحي الدفين.
الدولة إنعكاس للمجتمع، ليست بعيدة أو مفروضة عليه كما يدعي البعض،
الدولة تنفذ و تستغل ما يؤمن به المجتمع، إنها تستغل قمعه لكل أقلية (و بالتأكيد
المرأة). لأن الدولة تعرف أن المجتمع يقدس و يأله "السلوفانة" فإنها
تدهس المرأة المعارضة بسلاح "العذرية"؛ لأنها تعرف أن ذلك ما سيكسرها.
أسوأ أن يقال عن امرأة أنها بدون "سلوفانة" "شرموطة"
علي أن يقال عنها أنها "خائنة".
"كشوف العذرية"،
رعبي الأكبر،
كناشطة سياسية، توقعت أن أعتقل وأواجه
الاغتصاب، وكشوف العذرية، لكن كشوف العذرية أرعبتني أكثر من الاغتصاب.
أرعبتني فكرة أن يعلم أحد أدق ما
أحميه بروحي. في هذه اللحظة، داخلي فضلت الموت على أن يعلم أحد إن كان رجل قد
ذاقني أم لا.
قدسية ملكيتي لجسدي، وحقي عليه، كانا
أهم عندي من حياتي. فضلت الموت على أن أعطي المجتمع الحق أن يعرف شيئًا عن جسدي.
أكبر ألم كان أن يقهرني المجتمع، ويأخذ مني حقي وحدي أن أمتلك جسدي، وأن أعطيه لمن
أشاء.
لم أخبر أحدًا إجابة سؤال إن كنت
عذراء أم لا. هذا السؤال بالنسبة إليَ كان أقيم من حياتي. و أكثر من رفضت أن
يعلموا إجابته، هم من اهتموا أن يعرفوها؛ لأنهم أعطوها قيمة.
مرة تشاجرت مع أمي، ودخل في شجارنا
كلام عن العذرية بطريقة ما، وقالت لي أن كل ما يريده أي رجل أن يأخذ جسدي. وسط
وجعي، وجرحي، جذبت سكينا من المطبخ، وكدت أغرسه في عائني؛ لأدمره لولا أن أسرعت
إليَ، وأطارت السكين من يدي.
يومها صدمت من نفسي، وعلمت أن الألم
العميق الذي غرسه المجتمع داخلي جعلني مستعدة أن أدمر نفسي. وكنت حينها أقرر أن
أحرر نفسي من هذا الجرح بأي ثمن.
أحببت أستاذًا
بعمق، وكان أول رجل أراه يحترمني كإنسانة، ولا يراني جسدًا. طلبت منه أن أقابله، ليساعدني في أمر مهم بالنسبة إليَ. وحكيت له كل
ما مررت به، وكم أكره ازدواج المجتمع، وكيف يسجنني في "السلوفانة". وقلت له أنني سأقول له إجابة السؤال الذي لم أقله لأحد قبله
"إن كنت عذراء أم لا".
لم تهمه الإجابة، لكنها أهمتني أنا.
أردت أن أكسر داخلي شعوري بقدسية "السلوفانة"، كنت أريد أن
أكسر ذلك لأتحرر بصدق منها.
المجتمع يحطمنا من داخلنا يجعلنا عاجزين عن الحرية. الحرية لا تعني
تحدي المجتمع؛ بل تعني ألا يكون المجتمع في بالنا أصلاً. الحرية تعني الفعل لا رد
الفعل. المرأة تجبر حتي عندما تقاوم أن تظل سجينة "السلوفانة"، أن تظل
تقاتل ضدها أو تدمرها أو تدمر نفسها لتقاومها حتي. المرأة تظل مجبرة أن تدافع
سواءًا عنها أو ضدها. لا تملك أن تتناساها. يصعب أن يتناسي العبد السيد مهما أدعي
الحرية.
أخبرته، وبعدها خطوة خطوة، وجدتني
أتحرر. أخذت بعدها فترة حتى صار سجن "السلوفانة" جزءًا من الماضي. لم يعد يهمني "كشف العذرية"؛ لأنه أصلاً
ليس دليلاً أو حتى قرينة على العذرية. لم أعد داخلي أضع أهمية لفكرة العذرية،
وتحدي أفكار المجتمع عنها. صرت أراها مثل فكرة أول مرة يذوق أحد الأيس كريم. لم
يعد الجنس فكرة مهمة أو مهينة بالنسبة إليَ كما كانت.
اّمنت من داخلي أكثر من أي وقت مضي أن
"السلوفانة" ليست مهمة، لا تدميرها، ولا الحفاظ عليها. اّمنت من داخلي أن المجتمع
غير مهم، وأفكاره لا تعنيني، وحتى عندما أقاتلها لا يتملكني القتال.
صرت أؤمن أن جسدي ملكي بصدق.
جسدي ملكي هذه هي كلمة السر للحرية.
طالما بقت المرأة
تؤمن أن جسدها ملكًا للمجتمع أو لأي أحد سواها، ستظل عبدة "السلوفانة"
مهما قاومت.
إيمانها أنجسدها ملكها هي العقيدة الحقيقة التي تحميها داخلها من كثير من قمع "السلوفانة".
جسدي ملكي تعني ألا أحد يملك الحق علي أن
يحاسبني أو يعلم أو حتي يسأل عن أي شيء يخصه. جسدي ملكي تعني بطلان المحاكمة قبل الحكم، بل
تعني عدم اختصاص المحكمة بل تعني بطلان القانون. المجتمع لا يملك حقًا في جسد
المرأة ليملك حقًا في وضع قانون يخصه، و لا في أي محاكمةاعتمادًا علي هذا القانون
الباطل. المجتمع يغتصب حق المرأة، حق مشرويته في "جسدي ملكي".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق