الأربعاء، 5 سبتمبر 2018

سلسلة خبرات السفر-فرنسا باريس


فرنسا-باريس

أنا أعلم الصورة الذهنية المتكونة لدي الغالبية الكاسحة من سكان العالم الراغبين في السفر عن فرنسا؛ وخاصة "مدينة النور" باريس. أعلم صورة مدينة الحب، والرومانسية، والقبلات أسفل برج إيفل، والمدينة البيضاء الشاعرية الممتلئة بالفن، والعلم، والأدب، والحضارة، والفكر. أعلم صورة بلد الأناقة، وبيوت الأزياء، والاهتمام بالجمال. أعلم صورة منشأ الثورة، والحرية، والتغيير الاجتماعي، والسياسي، والعلمانية، وتأسيس الدولة. أعلم صورة المدينة التي تحتل أولويات أي سائح في السفر حول العالم. أعلم كل ذلك؛ لأنني عشت هذا الوهم طويلاً، وأعلم أن كل ذلك محض صورة إعلانية مزيفة، وشبه مناقضة تمامًا للواقع!
عندما زرت باريس أحبطت إحباطًا شديدًا للغاية، جعلني أرغب منذ يومي الأول فيها للعودة لمصر! أجل، العودة لمصر، تخيلوا! باريس أولاً ليست مدينة بيضاء علي الإطلاق، بل هي من أكثر المدن التي زرتها إمتلاءًا بالعناصر العرقية، والدينية، والثقافية المختلفة؛ ففي الكثير من العرب، وبخاصة من المغرب العربي، وفيها الكثير من الاّسيويين، والكثير جدًا من الأفارقة. وهي حتي الاّن تصنف المدينة الأكثر عنصرية التي زرتها علي الإطلاق! فرغم أن الجنس الأبيض يتجه تدريجيًا نحو التحول لأقلية في باريس إلا أنه يسيطر علي كل الأعمال "الراقية"، ويدفع العرب، والأفارقة والأسيويين إلي كل الأعمال المنخفضة اجتماعيًا، وتعد باريس نموذجًا للفشل الذريع في احتواء الاختلافات، وتحقيق المساواة علي النقيض من ألمانيا، والنمسا مثلاً. فالأمر لا يتعلق فقط بالأعمال التي يقوم بها الجميع عدا الجنس الأبيض بل إنه أيضًا يرتبط بمستوي الحياة وجودتها التي يتمتع بها من ينتمون إلي هذه العناصر. فالأحياء التي يقطنها العرب، والأفارقة، والأسيويون قذرة نسبيًا، ويمكن أن تري فيها القمامة بالشوارع (يحدث في باريس) علاوة علي أنها ليست واسعة، وأماكن الأفراد فيها ضيقة للغاية حتي تصميمها العمراني ضيق. أما الأماكن التي يعيش فيها البيض؛ فهي ثرية، ونظيفة، ومخططة معماريًا بوسع، وفيها أماكن لممارسة الرياضة، وقيادة العجل، والاستلقاء علي ضفاف الراين بملابس السباحة للحصول علي حمام شمس! فروق الطبقات يبدو قاسيًا جدًا في باريس ليست كالثقافة السائدة في كثير من بقاع أوروبا (حتي قبرص الغلبانة) حيث يوجد ر قدر من العدالة الاجتماعية، وأغلب المجتمع في الطبقة الاجتماعية المتوسطة.
كما أن باريس ليست كما يشاع عنها مدينة الحرية، والرومانسية، وقبلات برج إيفيل، علي النقيض تمامًا باريس مدينة باردة! المجتمع الفرنسي ليس مجتمعًا مرحبًا أو عاطفيًا علي الإطلاق. ولا تجد الناس يقبلون ويحضنون بعضًا في الشارع كما يشاع. أصلاً هذه الصورة غير موجودة في أي مجتمع أوروبي؛ لأن الأوروبيين لا يحبون بوجه عام كسر المسافات والحدود مع الاّخرين بسهولة، ولا يحبون إبداء المشاعر، والدفء كما يشاع في المحيط العام. إنهم ليسوا بلا مشاعر، ولكن مفهومهم وتعاملهم مع المشاعر، والمسافات مختلف للغاية عن الشعوب الشرقية. وبالذات باريس ذات الشعب العنصري البارد.
باريس هي مهد المدينة والحضارة فعلاً؛ لأنها فعلاً المكان الذي يفهم فيه الفرد معني كلمة "مدينة"، ويستطيع أن يستوعب بعمق المفهوم الثقافي والحضاري للمدنية منها. إنه أمر يصعب شرحه؛ إنما تجربة يجب علي الفرد القيام به؛ يجب علي الفرد أن يذهب إلي باريس، ويعيش تجربة السير وسط مدينة باريس، ووسط منشاءاتها العملاقة الحديدية الذي يعد برج إيفل جزءًا صغيرة منها، ويمضي وسط الشوارع، ويشاهد التخطيط المعماري الضخم المنظم الذي يحمل ف كل تفصيلة فيها أفكارًا عميقة عن الحداثة، ومفهوم المدينة حتي يستطيع الفرد أن يفهم معني أن باريس هي المدينة بحق، والمدينة هي باريس. أي مدينة أخري في أوروبا زرتها تقترب كثيرًا من مفهوم المدينة والمدنية، والحداثة، وربما تفوق باريس كثيرًا في الجمال، وحتي في روعة نحت التماثيل الضخمة المميزة لباريس لكن ستبقي تقترب فقط من مفهوم المدينة الحديثة. ستبقي باريس بكل قبحها وجمالها المدينة في صورتها النموذجية، وغيرها -مهما حاول- فقط يقترب.
أشهر جولات باريس هي متحف اللوفر وهو متحف لا يمكنني الحديث عنه، وعن مجموعاته، هو أيضًا تجربة عميقة كبيرة في المفهوم الحقيقي للمتحف؛ مثلما باريس هي المفهوم الحقيقي للمدينة. متحف اللوفر يحتاج تجربة شخصيًا من تخصيص أربعة أيام علي الأقل للنظر الخاطف علي مقتنياته من كل العصور، والثقافات، والبلدان. متحف اللوفر هو الشيء الحقيقي الذي يستحق أن تشد الرحال إلي باريس لأجله. باريس بدون متحف اللوفر ومفهوم المدينة عادية للغاية بل ربما أقل من عادية! سواءًا قوس النصر أو شارع الشنزلزيه أو القصر الرئاسي أو برج إيفل أو حتي حي الرسامين؛ كل ذلك لما سافر كثيرًا أو حتي قليلاً لا يرقي ليجعل من باريس أفضل من براج مثلاً بل ربما يجعلها أقل!
من أهم أجزاء تجربي في باريس كان "المولان روج" وهو ملهي ليلي مازال يحتفظ بالأسلوب التقليدي للملاهي الليلية في بدايات القرن العشرين، وكان فرصة مميزة لي لأحضر عرضًا حيًا يشابه التياترو القديم في مصر، ويشابه ما أريد أن أعيد أحياءه لكن أقولها بثقة وبلا تردد؛ فرغم روعة عروض المولان روج خاصة عروض لاعب الخفة إلا أنه لا يساوي شيئًا علي الإطلاق إذا ما قورن بأقل عرض قدمه أقل ممثل أو مطرب أو راقصة في فيلم عربي من داخل تياترو مصري منذ بدايات القرن العشرين، وحتي أوائل السبعينات.
الشنزلزيه شارع عادي؛ ما يستحق أن يشاهد فيه فقط هو السيارات المميزة، والجديدة، والمختلفة غير ذلك فإذهبوا إلي شارع جزيرة لتجدوا نفس الماركات، وبنفس الأسعار؛ فباريس فعلاً من أغلي مدن العالم بلا أدني سبب مقنع، وبلا جودة تستحقها علي الإطلاق!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق