السبت، 28 فبراير 2015

قصص بشر- رقم 5

(هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).


ترانس امرأة لذكر
(وافقت أن يكتب عنها بمرادفات الأنثي)
         عندما عرفتها دون أن أعلم ميلها الجنسي و الجندري، عرفتها معرفة سطحية. لم أعرفها كإنسانة بصدق. بقت إحدي معارفي و لكنها لم تتحول لصديقتي. لم أعرف عنها أجمل ما فيها إلا عندما عرفتها في مجتمع مختلفي الميول الجنسية و الجندرية.
          إنها من أشجع من قابلتهم، علمتنيالشجاعة بمعنٍ مختلف. ربما شجاعتي من النوع المواجه، المجنون، الذي يتحدي المجتمع، بل ربما هي انتقام أكثر منها شجاعة، لكن شجاعتها شيء مختلف. إنها تعرف الخوف، لكنها تحاربه و تقدم علي أفعال تحتاج شجاعة نادرة؛ لأجل أن تساعد أناسًا حتي لا تعرفهم يحتاجونها. إنها شجاعة، ليست بإنعدام الخوف و لكنبتحدي الخوف، و ليس لأجل النفس فقط، بل لأجل الاّخرين.
            قررت في فترة كانت ما تزال فيها تتلمس طريقها- بعد أن أقرت لنفسها أخيرًا (وهي في السابعة عشرة) بميلها الجنسي و الجندري- أن تساعد مختلفي الميول الجنسية و الجندرية و تؤسس صفحة يشعرون فيها بكونهم ليسوا وحدهم. فعلت ذلك و هي خائفة من المجتمع و الدولة، فعلت ذلك و هي ما تزال متخبطة. فعلت ذلك لأجلهم، لمجرد أنها قرأت علي جدار أحد الحمامات كتابة مثلية قالت أنها تشعر أنها وحيدة. أرادت أن تساعد تلك الفتاة و اّخرين بأن يشعروا أنهم مدعومين و أنهم مقبولين في مكان ما، -حتي و إن كان صفحة إلكترونية-. أرادت أن تساعد حتي و هي خائفة، و حتي و هي تحتاج من يقفون بجوارها.
            إنها لا تبحث عن الأضواء، و أرادت أن تبقي في الظلام، أرادت أن تدافع حتي من بعيد. هي أيضًا لا تتصرف كقائدة، لا تتصرف كأحد متسلط، أو مستبد حتي مع مجموعة تدعم مختلفي الميول الجنسية و الجندرية ( ظهرت نتيجة صفحتها). إنها أكثر تفاهمًا من أغلب من عرفتهم. و تتحمل كثيرًا جدًا حتي تكمل و تساعد من يحتاجون الدعم، من يشعرون بالضياع، من وصفتهم بأنهم يجذبون من ناحية من ميلهم الجنسي و من الناحية الأخري من المجتمع. تتحمل الضغط  العصبي، تتحمل خوفها و شعورها بالتهديد من الدولة في أي لحظة، و تتحمل مشاكل شخصية كثيرة بين من تساعدهم. تتحمل ذلك و أكثر وحدها. تتحمل ما لا يستطيع الكثيرون تحمل شيء بسيط منه.
               جرحها من أقرب أصدقائها عندما رفضوا دفاعها عن المثليين –وهم لا يعلمون أنها ترانس-، و قالوا لها ما معناه أن أمثالها يستحقون القتل، جعلها تبتعد، و تنغلق في مجتمع مختلفي الميول الجنسية و الجندرية. بدأت تقبل نفسها و تتغير، و تعيش ما تري أنها تريده، و تصبح أقرب في طريقتها للفتيان. في هذه الفترة التي كانت تكتشف فيها نفسها و ما تريده، ابتعدت عن كل من رأتهم سيرفضونها إن علموا، و انغلقت داخل مجتمعها الصغير. ليست وحدها، لكن كثيرين مثلها، يختارون الانغلاق داخل مجتمع صغير يقبلهم، جيتو يحميهم، بدلاً من مجتمع واسع يرفضهم و يحتقرهم و يجرحهم.
               لم تجرح فقط من أصدقائها، بل جرحت من فتاة أحبت. بعد أن أحبتها، و ارتبطا، وجدت الفتاة تبتعد و تقول لها أنها لن تستطيع أن تكمل في علاقة تعلم أنها لن تفضي إلي زواج و أبناء، و هذا ما تريده. رقم 5 أيضًا تريد زواجًا و أبناءًا، لكن المجتمع لن يسمح لها بذلك و لن يعترف لها بهذا الحق، حتي إذا أجرت عملية التحويل. عندما ابتعدت عنها الفتاة التي ارتبطت بها،  بدأت تقلق جديًا علي المستقبل، بدأت تواجه واقع مجتمع يرفض لها حلمها كإنسانة في ان ترتبط بمن تحب و تتزوج و يكون لديها أبناء.
                إنها ضمن أكثر من احترمتهم. احترمتها؛ لأنها تواجه خوفها. احترمتها؛ لأنها تريد أن تساعد –حتي من لا تعرفهم- و تشعرهم أنهم ليسوا وحدين. احترمتها؛ لأنها تريد أن تشعر غيرها بالدعم، و دعمتني كثيرًا من قبل، و فهمت كثيرًا من مشاعري.
                 إنها ليست مثالية. تيأس من الناس، و ربما تحكم عليهم أحيانًا بسرعة من الخارج.أحيانًا لا تحاول أن تعطي من أمامها فرصة ليتغير/تتغير ، لكنها –في النهاية- ليست مضطرة لاحتمال الألم لتغير أحدًا. إنها –و هذا مبرر جدًا- تخاف الألم، و أحيانًا أظنها تخاف أن تبدو ضعيفة.
                  بقي أن أذكر عنها أنها مرحة. إنها من أكثر من عرفت قدرة علي أن تحويل أكثر الأشياء إيلامًا إلي مصدر سخرية و ضحك. تتقن فن الكوميديا السوداء.

                  سأظل احترمها كإنسانة بكل ضعفها و قوتها. و سأظل احترم –أكثر من أي شيء- رغبتها، تعبها و تحديها لخوفها؛ لتشعر كل من يحتاج الدعم به.

السبت، 14 فبراير 2015

قصص بشر (4)

 (هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).

(4)
مسيحي متشكك- يساري
"أنا بأنزل الشارع من 2008 عمري ما إتمسكت، تسلميني؟ شايفاني واقف و اللي جنبي بيهتف : "الداخية مية مية" تقومي تعملي لي باي باي!"
"و الله لو إتمسكنا هأفضل مخاصمك و مش هأبصلك طول ما إحنا في البوكس!"
قال هاتين العبارتين يوم الوقفة النسائية ضد مقتل شيماء الصباغ. لم يضطر يومها أن يأتي؛ فالوقفة نسائية و لن يسمح له بالاشتراك فيها، لكن أصر أن يأتي و وقف في الرصيف المقابل مع المواطنين الشرفاء استعدادًا للتدخل في حالة حدوث اشتباكات. و عندما أشارت له "س.ق" من الرصيف المقابل بهبل، و هي لا تلحظ أنها تسلمه هكذا، لم يحاول أن يهرب و يتركها، و لكنه بقي مكانه و مثل أنها لا تشير إليه. العبارة الأخري قالها ل"ك" التي أصرت أن تعود لمكان الوقفة بعد أن انفضت؛ لتقف وحدها تهتف ! أصر أن يثنيها عن العودة بنقاش هاديء لكنه لم يتخلَ عنها، و لم يتركها تذهب وحدها. عادت "ك" تصر أن تمر بمكان الوقفة –حتي دون أن تتظاهر- و بمجرد مرورهم بالمكان إتبعهم أحد الأمنجية حتي جلسوا علي مقهي فجلس قربهم. 
عرفت فيما بعد أن مواقفه تلك مع "س.ق" و "ك" ليست غريبة عنه. هو لا يترك أحدًا خلفه مهما حدث، و ربما هذه هي أنبل صفاته. في 25 يناير 2014 تم ضرب محيط نقابة الصحفيين و هو واقف في اّخر المسيرة، وجد حينها إحدي الرفيقات تجري نحو المسيرة و خلفها البلطجية. كان بإمكانه حينها أن يجري، لكنه فضل ألا يتركها و عاد ليأخذها !
الغريب أنه ليس شجاعًا أو نبيلاً (سأستخدم هذا اللفظ مكان لفظ العامية "جدع") فقط، لكنه كذلك لا يشعر من معه أنهم أضعف أو أقل منه، و لا يفرض رأيه عليهم و يحاول أن يريحهم. أحيانًا تكون طلباتهم عاطفية غير واقعية و لا عقلانية و تسبب له تعبًا إضافيًا، لكنه يوافقهم عليها بعد أن يعرض عليهم الرأي الأقرب للعقل و حتي و إن كان سيتعبه أكثر. أحيانًا أشعر أنه –يتماسك- مهما جرح من داخله حتي لا ينهار أمامهم. دائمًا أشعر أنه يشعر بالمسؤولية عن من حوله. 
جزء كبير من أيام دراسته الجامعية أمضاها في تنظيم المظاهرات و المعارض حتي صار ضمن قليلين في الجامعة معروفين بالاسم من الأمن، و حتي عندما تخرج لم ينقطع عن العمل الطلابي داخل الجامعة. و أمضي جزءًا محترمًا من وقته داخل المشرحة أو الأقسام لأجل القتلي و المعتقلين. 
يحاول أن يتعامل مع كل شخصية بالطريقة التي يراها مناسبة للتعامل معها –و إن كنت أشك في قدرته علي فهم مختلف الشخصيات-. أحيانًا ينتابني الشعور أنه يشعر برفضه من المجتمع، و يحاول أن يتأقلم معه و يصير أقرب إليه. هو لم يختر طريق الانغلاق داخل الجيتو الخاص به (الخيار الشائع اجتماعيًا)، هو اختار أن يختلط بالمجتمع بشتي اختلافاته، و هو خيار شجاع نادر. لكنني أظن أنه كذلك اختار الاختلاط بذلك المجتمع بالشكل الذي يجعله مقبولاً أكثر منه، رغم أنه أصلاً يفترض أن يكون جزءًا من ذلك المجتمع. إنه مجتمع يفرض علي أفراده أن يمثلوا القرب من الأغلبية لينالوا رضاه.
يمكن للكثيرين أن يوجهوا إليه الإتهام بالخيانة لكونه معارض و يساري. يمكن للكثير من المسلمين أن يدعونه كافرًا؛ لأنه مسيحي، و يمكن للكثير من المسيحيين أن يوجهوا ذات الإتهام إليه؛ لأنه متشكك. لا يهم من يحاكمونه، لا يهم ما يظنون. ليتهم لا يفرضون رأيهم علي أحد، ليتهم يريحون من حولهم، ليتهم لا يتركون أحدًا وراءهم، مثلما يفعل هو.

الثلاثاء، 10 فبراير 2015

شيء من يومي أمس

 ( هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة.)


انا كويس يا جماعه شكرا للاهتمام
نركز مع الناس الماتت و ال بيزيد عددهم ل ٢٨ لحد دلوقتی 
انا قدام مستشفی القاهرة الجديدو الجثث طلعت علي مشرحة زينهم انا متجة علی هناك
   
٢خرجوا حتی الان #‏مشرحة_زينهم
            قررت أن أحصل علي رقم "ب" من إحدي الصديقات المشتركات بيننا "أ" لأطمئن عليه، و أعزيه، و لكنها عندما لم ترد، إتصلت ب"م" صديقتي بالمدرسة التي كان يفترض أن تخرج معي أمس.
            "ما علش يا يسرا، واحد زميلنا في المدرسة مات إمبارح في الماتش."
        لم استطع تذكر وجه الزميل، أحرجت أن أتصل ب"م" ثانية و أخبرها أنني لا أتذكره، فاتصلت ب"و"، و هو زملكاوي و رفيق ثوري.
                " مات لكَ حد إمبارح؟"
               "خايف أبص علي الأسماء."
         سألته أن يرسل لي صورة الزميل و معلومات عنه، لكنه أخبرني أن أتصل برفيق اّخر ليساعدني.
           "البقاء لله، عشان لما تعرف إن حد مات لك أكون عزيتك."
         أجريت عدة إتصالات و جمعت معلومات عن مجزرة الدفاع الجوي، و عن إنعدام الإحساس و الإنسانية لدي الناس؛ حيث استأنفوا المباراة و كأن ذبابًا قتل لا بشر. إتصلت ب "أ" و بكيت و أنا أتحدث بصوت مرتفع وسط حوش الجامعة، و خلفي فتاتان تتحدثان و تضحكان. وجدت "ر" تتجه نحوي، احتضنتني.
          "الماتش كمل،و الناس إتفرجت و احتفلت بالأجوان، و لا كأن دبان مات جنبهم... بيقولوا ما دفعوش تذاكر!"
          أغلقت الخط مع "أ" و جاءت إليَ حيث أقف في الجامعة. أخبرتني أن صديقتنا "س .ق" كانت مع "ب" البارحة في المشرحة حتي الصباح و لم تنم و منهارة تمامًا، و أنها تريد أن تشتري "زانكس" لها، و أن "ي" كان بالمباراة أمس و رأي الموتي بجواره. أخبرتني أن هناك عزاء في الجامعة الألمانية للطلاب الذين ماتوا منها. أردت أن أعزي "ب"؛ لأنني أعرف أنه خريج الجامعة الألمانية، لكنني أخبرتها أن لدي عزاء لأحد زملائي بالمدرسة، إن استطعت أن أحضر الاثنين سأحضرهما، إن لم استطع فسأختار عزاء زميلي.  و ظللت أصرخ أنني الاّن عليَ الاختيار بين أي العزائين أحضر. كنت متعجة أنني في موقف الاختيار بين العزاءات، و أنني بدأت يومي بدلاً من "صباح الخير" ب "مات لك حد إمبارح؟" استغربت جدًا هذه العيشة التي فرضت علينا، التي يصير الموت و ما حوله فيها هو عيشتنا اليومية و ضمن جدول الأعمال اليومية الذي يجب أن ينظم.
           إتصلت بأمي لأخبرها بأنني سأحضر عزائين، فصاحت بي أنني لن أذهب لأيهما، و رددت العبارة الشهيرة: "إيه اللي وداهم هناك؟"، قلت لها أنني لن أحتملها هي أيضًا، فكفاني ما أنا فيه. و أغلقت الخط و قررت الذهاب لهما بغض النظر عن رأيها، لكن "أ" أخذت مني الهاتف و هدأت أمي و طمأنتها، و جعلت أمي توافق علي ذهابي.
           بعد أن هدأت، ذهبت لبعض صديقاتي و ضحكت قليلاً ثم عدت ل"أ" و "ر" و جلست معهما قليلاً ثم ذهبت لفصل "الفلسفة القديمة" قرأت قبل بداية الفصل واجب القراءة لفصل "الفلسفة الحديثة" ثم بدأ الفصل، فدرست أرسطو و مفهوم السعادة لديه و وجهت بعض الانتقادات له في المناقشة. ثم ذهبت لفصل "الفلسفة و الفن" و حضرت محاضرة و مناقشة عن المذهب الحديث و ما بعد الحديث في الفن، كل ذلك و كأن شيئًا لم يحدث.
            خرجت من المحاضرة إتصلت ب"س.ق" و وجدتها في حالة انهيار و صدمة من تجربة المشرحة.
            "هو إحنا ليه رخاص أوي كده؟"
             "كان بينادوا علي الأسماء كأنهم بينادوا علي ورقة حضور."
               بعد قليل وجدت "ي" يقترب من بعيد، فذهبت له "س.ق" و احتضنته. احتضنتهما.
               "طب إحنا ناس مش محترمة، لكن الستات و الأطفال اللي معانا، دول كمان مش محترمين؟"
                "إحنا وقفنا الباص و اللعيبة و وريناهم صور الناس. عملنا كل حاجة ممكن تتعمل، وقفنا الشارع. دول ناس جايين يشجعوكوا."
                  إتصلت ب "ب" و عزيته، و سألته عن ميعاد عزاء الجامعة الألمانية فأخبرني أنه لا يعرف، و عندما يعرف سيخبرنا. "س.ق" كانت منهارة تمامًا و صممت رغم ذلك أن تذهب ل"ب" و ترافقه إلي القسم، لتشارك في ملف المعتقلين علي خلفية مجزرة الدفاع الجوي. حاولت أن أثنيها عن ذلك؛ لأنني خفت أن تنهار مجددًا، و ألا تحتمل تجربة القسم بعد تجربة المشرحة، لكنني طبعًا لم أنجح.
                  تركتها بعد أن إتفقنا أن نذهب سويًا للعزاء و ذهبت لإحدي صديقاتي لأحدثها في موضوع هام. و إتجهت إلي الحافلة. قبل أن أركبها إتصلت ب"م" و أخبرتني بمكان العزاء فعرفت أنه نفسه مكان عزاء طالب الجامعة الألمانية، سألتها إن كان زميلنا درس بعد مدرستنا بالجامعة الألمانية فأكدت لي ذلك. إتصلت ب"أ" و أخبرتها بالأمر.
               "الحمد لله إنه طلع واحد مش اتنين... إيه اللي بأقوله ده؟ أنا بقيت بأقول الحمد لله إن اللي مات واحد مش اتنين!"
               عدت إلي المنزل، تناولت غدائي و غيرت ملابسي و إتصلت ب"س.ق" و إتفقنا علي نقطة لقاء و غيرناها عدة مرات بسبب ازدحام الطرق لأجل زيارة بوتين. و بعد مجهود إلتقينا قرب الأوبرا (لكن لم يسمح لي الضابط أن أسير علي رصيف الأوبرا، فإجتزت الشارع و وقفت علي الرصيف الذي يقسم الطريق لذاهب و عائد).   
               تأخرنا قليلاًُ علي العزاء. عندما وصلنا، قابلت "م" و حكيت لها ما مرت به "س.ق"، و تحدثنا قليلاً، و أنا واقفة مع "س.ق" و "ك" في أحد صفين طويلين ننتظر أن نعزي والدته. وصلت "س.ق" إلي والدته قبلي، و وجدتها تقبل والدته و تحتضنها و تنحني لتقبل يديها و لم تتركها بسرعة. عندما وصلت أنا إلي والدته أخبرتها أنني كنت في مدرسته، و أن الجميع يمدحونه.
            "بيقولوا كان راجل مش كده؟"
             جلست بجوار "ك":
            "سمعتي أمه قالت لي إيه؟... بأقولها : "هنجيب لكِ حقه"، بتقول لي: "لأ، ما تحرقيش قلب أم." "
            كلمات "ك" اّلمتني بقسوة من داخلي، جعلتني أعود للانهيار و أنا أردد داخلي ثم بصوت مسموع: "القهر وحش قوي." ما دار داخلي أن والدته تدرك أن دماءنا تسيل دون جدوي، موت و ألم دون طائل. القهر أننا نموت و تتعذب أمهاتنا و لا يغير ذلك شيئًا.  تذكرت أمي و كيف أتعذب داخلي؛ لأنني أعلم أن قتالي سيقتلها، أنها ستموت بسببي إن حدث لي شيء. شعرت بالقهر. نري القهر و القتل أمامنا و لا نستطيع حتي أن نقاوم. ثمن مقاومتنا مزيد من الدماء، مزيد من عذاب الأمهات (حتي كلمة عذاب عاجزة عن التعبير) و لا ثمن للدماء.
          شعرت بطاقة غضب عارمة داخلي. شعرت أنني أريد أن أضرب أي شيء، سيطرت علي نفسي حتي لا أوجه ضربة لشجرة أو إلي خشب الصوان. "ب" حاول تهدئتي و قال لي أن نضرب بعضنا بعد العزاء لا حينها.
           "أنا فضلت أضرب في الفنون القتالية عشر سنوات، لحد ما رفضت العنف. لكن دلوقتي عايزة أضرب... للأسف لا العنف و لا السلمية و لا أي حاجة بتجيب نتيجة."
             "س.ق" ظلت جالسة بجوار والدته ترفض أن تقوم رغم إلحاحنا حتي النهاية - رغم أنها لا تعرفها و لا تعرف ابنها-. تمكنا من تعزية أخيه. جلسنا معًا خارج العزاء قليلاً، فأخبرني "ب" أن ماهينور المصري أخذت حكمًا بالسجن خمس سنوات، و أجهز عليَ بخبر "ضرب" عزاء في المعادي. هذه المرة لم استطع أن أتحمل فلطمت خدي.
              قابلت "س.ق" صديقة لها كانت زميلة القتيل في الجامعة و أصرت أن توصلها معنا في السيارة. ركبنا سبعة في سيارة واحدة و بعد أن وصلت المنزل، قرأت واجب قراءة لمادة "الفلسفة القديمة" عن "السياسة" لأرسطو و شاهدت حلقة رسومًا متحركة!
              لقد حذفت كثيرًا من أحداث اليوم لأسباب تتعلق بخصوصيتي و خصوصية أفراد اّخرين و الأمن و لأسبابٍ أخري.
              هذا اليوم علمني الكثير عن نفسي و من و ما حولي، كثير عن الإنسانية و اللا إنسانية.
 
            
            
           
 


السبت، 7 فبراير 2015

قصص بشر- رقم 3

 (هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).

(3)
ضعيفة الإبصار
         "أنا مش عارفة إنتِ مستحملة نفسك إزاي، إنتِ تاعبة نفسك و تاعبة كل اللي حوليكِ معاكِ، و هتفضلي تعملي كده. أنا لو منك ما كنتش دخلت جامعة أصلاً."
          كلمات مشابهة لتلك ضمن أبشع ما سمعته رقم 3 في حياتها، ضمن أكثر ما جرحها. شعرت دائمًا أنها تحمل من حولها مسؤولية و تتعبهم؛ لأجل احتياجها لمساعدتهم. لم تدرك حينها أنها تعطيهم مثلما يعطونها، أنهم مثلما يساعدونها، تساعدهم، و تعطيهم شيئًا بكونها إلي جوارهم.
          حتي دخولها الجامعة الأمريكية في منحة لم تكن تستطيع أن تقرأ كتبًا كما يحلو لها؛ لأنها لم تكن تستخدم حاسوبًا ينطق الكلمات. لم تكن تعول أملاً كبيرًا علي قبولها بالجامعة الأمريكية لكن قبولها سمح لها أن تحقق حلمها في دراسة الحاسب الاّلي. إنه حلم محرم علي كل ضعيف/ة بصر في مصر. دراسة العلوم لا الاّداب في الجامعة لا يسمح بها في مصر، و بدأت الجامعة الأمريكية وحدها تسمح بهذا الحلم لدفعتها.
         و حتي الجامعة الأمريكية التي تعد الأفضل في مساعدة ضعاف البصر في مصر، لم تساعدها تمامًا و تحملت أن تعمل و تذاكر أضعاف الجميع، لتحقق القليل و لكن لتمضي في طريق حلمها. امتلكت الشجاعة لتتحدي الجميع و تتخصص في الحاسب الاّلي، رغم شعورها بصعوبته و عجزها عن تحقيق ما تستحق فيه؛ لاحتياجه لعمل كبير من جانبها أكثر من الجميع. عندما أفكر في ذلك الاّن، و أتذكرها، أشعر أنها تملك شجاعة و روح تحدي و عمل جاد حقيقيين نادرين. يحتاج الكثيرون أن يعيشوا بجوارها ليشعروا بكم تتعب و تعمل بجد، و تتحمل نفسيَا و عصبيًَا الكثير جدا في سبيل حلمها، ليتعلموا منها.
          قضية أساسية تقاتل ضدها هي التحرش. إنها لم تكتفي برفضه أو رفض الحجج التي تدافع عنه بل إنها قاومت ضده، واشتركت في حملة توعية ضده و تعمل الاّن علي كتابة مجموعة قصصية تروي قصصًا حقيقية ربما تشعر بها المجتمع بحقيقة القمع الذي يقع علي المرأة بالتحرش و الذي يحصنه المجتمع.
                  هي إنسانة ليست مثالية، لكنها تتغير و تخطو للأمام بمساعدة من حولها. مثل الكثيرين في مجتمعنا كانت ترفض الاّخر، و تحاكمه، حتي بدأت تري نفسها ظالمة، و تحاكم الناس و تعطي نفسها الحق الذي لا يحق لها في الحكم عليهم. حين رأت أنها تظلم، حينها قررت أن تبدأ في تغيير نفسها و تقبل الاّخرين حتي و إن اختلفت معهم.
           هناك كلمة قالتها جرحتني. قالت لي أنه عندما تعبت إحدي صديقاتها ضعيفات البصر نفسيًا و بقت بالمنزل، إتصلت رقم 3 بها و قالت لها أن أحدًا لن يرحمها، و لن يقول أنها كانت متعبة نفسيًا. لا أحد سيرحمها إلم تنجح. معني كلاماتها أن أحدًا لن يرحم الأضعف إن فشل، يجب علي الأضعف أمام المجتمع أن يظل يعمل أكثر من الجميع و يتعذب حتي يتكرموا و يقبلوا إعطاءه جزء من حقه. لا أحد يقدر معاناة الأضعف، الكل يكفيه شعوره بالقوة.
            هي لم تختر مصيرها، و لا وضعها في هذا المجتمع لكنها ليست كالكثيرين مستسلمة، إنها تقاوم هذا المجتمع، و تختار أن تمضي خلف حلمها مهما تعبت. ليست ضعيفة. إنها مقاتلة.