(هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).
(4)
مسيحي متشكك- يساري
"أنا بأنزل الشارع من 2008 عمري ما إتمسكت، تسلميني؟ شايفاني واقف و اللي جنبي بيهتف : "الداخية مية مية" تقومي تعملي لي باي باي!"
"و الله لو إتمسكنا هأفضل مخاصمك و مش هأبصلك طول ما إحنا في البوكس!"
قال هاتين العبارتين يوم الوقفة النسائية ضد مقتل شيماء الصباغ. لم يضطر يومها أن يأتي؛ فالوقفة نسائية و لن يسمح له بالاشتراك فيها، لكن أصر أن يأتي و وقف في الرصيف المقابل مع المواطنين الشرفاء استعدادًا للتدخل في حالة حدوث اشتباكات. و عندما أشارت له "س.ق" من الرصيف المقابل بهبل، و هي لا تلحظ أنها تسلمه هكذا، لم يحاول أن يهرب و يتركها، و لكنه بقي مكانه و مثل أنها لا تشير إليه. العبارة الأخري قالها ل"ك" التي أصرت أن تعود لمكان الوقفة بعد أن انفضت؛ لتقف وحدها تهتف ! أصر أن يثنيها عن العودة بنقاش هاديء لكنه لم يتخلَ عنها، و لم يتركها تذهب وحدها. عادت "ك" تصر أن تمر بمكان الوقفة –حتي دون أن تتظاهر- و بمجرد مرورهم بالمكان إتبعهم أحد الأمنجية حتي جلسوا علي مقهي فجلس قربهم.
عرفت فيما بعد أن مواقفه تلك مع "س.ق" و "ك" ليست غريبة عنه. هو لا يترك أحدًا خلفه مهما حدث، و ربما هذه هي أنبل صفاته. في 25 يناير 2014 تم ضرب محيط نقابة الصحفيين و هو واقف في اّخر المسيرة، وجد حينها إحدي الرفيقات تجري نحو المسيرة و خلفها البلطجية. كان بإمكانه حينها أن يجري، لكنه فضل ألا يتركها و عاد ليأخذها !
الغريب أنه ليس شجاعًا أو نبيلاً (سأستخدم هذا اللفظ مكان لفظ العامية "جدع") فقط، لكنه كذلك لا يشعر من معه أنهم أضعف أو أقل منه، و لا يفرض رأيه عليهم و يحاول أن يريحهم. أحيانًا تكون طلباتهم عاطفية غير واقعية و لا عقلانية و تسبب له تعبًا إضافيًا، لكنه يوافقهم عليها بعد أن يعرض عليهم الرأي الأقرب للعقل و حتي و إن كان سيتعبه أكثر. أحيانًا أشعر أنه –يتماسك- مهما جرح من داخله حتي لا ينهار أمامهم. دائمًا أشعر أنه يشعر بالمسؤولية عن من حوله.
جزء كبير من أيام دراسته الجامعية أمضاها في تنظيم المظاهرات و المعارض حتي صار ضمن قليلين في الجامعة معروفين بالاسم من الأمن، و حتي عندما تخرج لم ينقطع عن العمل الطلابي داخل الجامعة. و أمضي جزءًا محترمًا من وقته داخل المشرحة أو الأقسام لأجل القتلي و المعتقلين.
يحاول أن يتعامل مع كل شخصية بالطريقة التي يراها مناسبة للتعامل معها –و إن كنت أشك في قدرته علي فهم مختلف الشخصيات-. أحيانًا ينتابني الشعور أنه يشعر برفضه من المجتمع، و يحاول أن يتأقلم معه و يصير أقرب إليه. هو لم يختر طريق الانغلاق داخل الجيتو الخاص به (الخيار الشائع اجتماعيًا)، هو اختار أن يختلط بالمجتمع بشتي اختلافاته، و هو خيار شجاع نادر. لكنني أظن أنه كذلك اختار الاختلاط بذلك المجتمع بالشكل الذي يجعله مقبولاً أكثر منه، رغم أنه أصلاً يفترض أن يكون جزءًا من ذلك المجتمع. إنه مجتمع يفرض علي أفراده أن يمثلوا القرب من الأغلبية لينالوا رضاه.
يمكن للكثيرين أن يوجهوا إليه الإتهام بالخيانة لكونه معارض و يساري. يمكن للكثير من المسلمين أن يدعونه كافرًا؛ لأنه مسيحي، و يمكن للكثير من المسيحيين أن يوجهوا ذات الإتهام إليه؛ لأنه متشكك. لا يهم من يحاكمونه، لا يهم ما يظنون. ليتهم لا يفرضون رأيهم علي أحد، ليتهم يريحون من حولهم، ليتهم لا يتركون أحدًا وراءهم، مثلما يفعل هو.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق