( هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة ).
كان دائمًا يسوق لنا أننا لا نستطيع أن
نقول "لا" واحدة لأمريكا. كان دائمًا يسوق لنا أننا الطرف الأضعف و
كوننا الطرف الأضعف بالضرورة يحتم علينا الانصياع و تنكيس الرأس و الخنوع لها.
لكن هل
هذه الفقاعة الضخمة حقيقة ؟ هل نحن فعلاً أضعف فبالضرورة يجب أن ننحني و نخضع لكل
أمرٍ أمريكي لنا ؟
في رأيي
"لا" ، لن أجادل حاليًا أننا لسنا أضعف تمامًا كما نظن ، و لكنني سأجادل
أننا حتي و إن كنا أضعف كما ندعي، فهذا لا يعني بالضرورة أننا يجب أن نقبل أقدام
أمريكا ، و نجري إلي أي هدف تشير بإصبعها إليه.
أنواع
القوة متعددة و كثيرة ، منها القوة العسكرية و الاقتصادية و الثقافية و قوة
التأثير و الخداع ،إن كنا لا نمتلك بعضها بشكل متساوٍِ مع أمريكا ،فيمكننا أن
نستعمل أخري بطريقة معينة موجهة لنستطيع أن نتصدي لها.
مثلاً
يمكننا استغلال قوتنا الناعمة و نفوذنا الأخلاقي كما تفعل تركيا الاّن لنصنع
لأنفسنا شعبية في المنطقة و صوتًا مسموعًا. عندما سقط ضحايا أتراك في أسطول الحرية
، و بعدها أدي أردوجان دوره المحترم في انتقاد حصار غزة كفعل إجرامي من إسرائيل ،
اكتسبت تركيا و نموذجها الحضاري شعبية واسعة في منطقتنا العربية ، و بدأ التحدث عن
كون تركيا واحد من ثلاثة لاعبين غير عربيين في المنطقة ( إسرائيل و إيران و تركيا)
يحددون مصيرها.
إيران هي
الأخري رغم أنها سوقت لكونها تستطيع ردع إسرائيل و أمريكا ليست بهذه القوة المضخمة
علي الإطلاق ، و لكنها تستفيد من الصورة الذهنية السلبية عن كونها خطرًا محدقًا
بأمريكا و إسرائيل لتصنع لنفسها بروباجندا كنموذج لدولة تستطيع لتصدي لأقوي قوة في
العالم ، و هذا جعلها لفترة معينة ذات شعبية واسعة في المحيط الإسلامي و لاعب
محوري في المنطقة.
بغض
النظر عن موقفي و رأيي تجاه النموذجين التركي و الإيراني ، فأنا هنا أتحدث عن قدرة
بعض الدول (الغير قوية )و الناشئة أن تتصنع لنفسها صورة ذهنية قوية و شعبية واسعة
تجعلها لاعبًا مهمًا في منطقتها. ربما أجد سؤالاً يطرح حول علاقة هذه الشعبية
المغلقة داخل محيط محدد و المرتبطة بمواقف أخلاقية أو إيديولوجية لدولٍ ناشئة
بقدرتها علي التصدي لأمريكا .سأجيب إجابة بسيطة ، هي أن هذا النفوذ و هذه الشعبية
أثبتا أنهما بطريقة أو بأخري يجبران أمريكا علي إجراء حسابات أخري قبل تأثيرها علي
هذه الدول.
أمريكا
لم تستطع بسهولة ضرب إيران لأسباب متعددة ، و لكن أحد هذه الأسباب هو صورة إيران
الذهنية كنموذج حضاري إسلامي يحاول النهضة باستعمال القوة الذرية استعمال سلمي ، و
تحاول أمريكا إجهاض هذا النمو فقط لحماية إسرائيل و لتبقي علي المسلمين دائمًا
متخلفين. هذه الصورة التي سوقتها إيران هي واحد من الحسابات الدقيقة التي تحسبها
أمريكا قبل ضرب إيران ، خاصة و أن هذه الصورة الذهنية لإيران تجعل الدول العربية
ذاتها عاجزة عن الوقوف إلي جانب أمريكا كما فعلت في حرب الخليج الثانية ضد العراق
مثلاً ، فلو حاولت حتي الدول العربية فعل ذلك فسينظر لها علي أنها تدعم أمريكا و
إسرائيل في إجهاض النموذج الحضاري الإسلامي الإيراني في النمو.
مصر لو حاولت أن تتبني نموذجًا معينًا أخلاقياً خاصًا بها بغض النظر عن
مكونات هذا النموذج و قاعدته الإيديولوجية أو الأخلاقية ، فإن مصر تضمن لنفسها أن
تكتسب نفوذًا إقليميًا و ربما عالميًا أيضًا يجعل أمريكا تحسب لها ألف حساب ، و
يضعف من قبضة أمريكا السياسية علي مصر. و نحن أكثر حظًا من تركيا و من إيران
؛لأننا نمتلك مميزات كثيرة مثل الأزهر كقوة ناعمة في المحيط الإسلامي و الكنيسة
المصرية التقليدية كمصدر نفوذ في المحيط الإفريقي ، و نمتلك موقع استراتيجي متميز
يجعلنا مرتبطين بأفريقيا و اّسيا و المنطقة العربية و البحر المتوسط و نحن علي
حدود ما يسمي دولة إسرائيل و هي الدولة التي تشكل منبع أهم الصراعات في المنطقة. و
نمتلك كذلك ميراث حضاري ضخم لا تمتلكه دولة في العالم من حضارة فرعونية و يونانية
رومانية و قبطية و إسلامية و حديثة و هذا الميراث الحضاري في حد ذاته يشكل جاذبية
قوية لمصر يمكن إن استغلت جيدًا أن تصنع لها قوة حضارية ناعمة في العالم بأكمله (
و هذا ما تحدثت عنه في مقالي السابق أفكار لنهضة مصر 2) ، نحن أيضًا لدينا تاريخ
فني قوي ، إن أعدنا الاعتبار لفننا ، أغانينا و أفلامنا و جعلناهم يستمدون أفكارهم
من هذا التراث الحضاري الغني المتنوع فربما نتمكن من جعلهم المصدر الرئيسي لتأثير
مصر في المنطقة و العالم .
أمريكا بارعة في ( قوة التأثير) فهي تستطر علي العالم بنموذجها الثقافي ،
بأفلامها و موسيقاها و رسومها المتحركة (بوجه أقل) ،جامعاتها ، مطاعمها ، غذائها
.هذا ما صدرته للعالم في عصر العولمة أو الأمركة كلاهما سواء، و هذا ما جعل لها
نفوذًا حقيقيًَا فكريًا علي أجيال طويلة في العالم كله تقريبًا فقدت انتماءها
الحضاري لأوطانها لتتبني الاتنماء الكامل للحلم الأمريكي.و نحن كذلك ضعفاء لأننا
مثل الجميع و ربما قبل الجميع نتطلع لأمريكا بازدواج كراهية وعداء من جهة و خضوعٍ
و عشق من جهة ثانية و حلم بمجرد أن ترضي عنا و نهاجر إليها. و هذا واحد من أهم
مفاتيح ضعفنا أمام أمريكا.
لننظر إلي اليابان .اليابان كانت و مازالت
منبهرة بالنموذج الأمريكي ، شبابها يعشقون طريقة الحياة الأمريكية ، و أغاني
المجموعات الشبابية الأكثر شهرة في اليابان علي إيقاعات أمريكية. أفلام هوليوود
أثرت تأثيرًا محوريًا في وجدان الشباب الياباني لعقود. و لكن اليابان لم تستلم
لقوة التأثير الأمريكية ، قوة أمريكا الناعمة ، و ردت ردًا مباشرًا بنظرية الردع
الهجومي علي أمريكا. الرسوم المتحركة اليابانية و المجلات المصورة كانا سلاح
اليابان الحضاري للتصدي لقوة أمريكا الناعمة بالرد بالمثل. فالأطفال و الشباب
الأمريكيين الاّن يخضون للنموذج الحضاري الياباني المصدر لهم في الرسوم المتحركة
اليابانية. يمكن القول تقريبًا أن كوريا حاولت فعل الشيء ذاته فلم تجد مجلاتها
المصورة و رسومها المتحركة الشعبية ذاتها ، فلجأت إلي المسلسلات الكورية و نجحت في
جعل هذه المسلسلات بمثابة قوة ناعمة مؤثرة لها داخل أمريكا و غيرها.
ليس هناك نموذج محدد أو نمط واحد يجب أن
تسير فيه مصر لتمتلك قوة ناعمة أو خشنة ضد أمريكا ، و لكن يجب أن نختار نموذجًا
حضاريًا و ثقافيًا و سياسيًا نتبناه ليصنع من مصر نموذجًا حضاريًا متميزًا و مؤثرًا
في مجريات المنطقة و العالم إن تمكنا من خلق هذا النموذج بكل أضلاعه السياسية و
الثقافية و الحضارية ( تركيا تمتلك درامتها كجزء من نموذجها الثقافي و قوتها
الناعمة ) ، فحينها ستصير مصر قادرة علي التصدي لأمريكا بقوة و ستجبر أمريكا علي
وضع عشرات الحسابات أمامها و هي تتعامل مع مصر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق