كتبت طويلاً عن (علاقتنا بالغرب) ،
ازدواجيتنا في النظرة التطلعية إليه علي أنه النموذج الأفضل ، و ازدرائنا له و
تحقيرنا إياه ؛لأننا دائمًا نتهمه ( من منظرونا نحن و ثقافتنا ) بالفسوق و
الانحراف.و هذه الازدواجية ولدت داخلنا ازدواجية أخري بين تيار رافض تمامًا للتأثر
بالغرب أو بأي ثقافة يراها مختلفة ،و تيار اّخر يري أنه لا حل لنا إلا باتباع خطي
الاّخرين. و حتي هذان التياران الفكريان داخلهما مزدوجان ، فالتيار الذي يرفض
التأثر بالاّخر داخله يبجله و بضرب الأمثال به ، و التيار المبهور بالاّخر دائمًا
يؤكد علي حرصه ألا نتحول لنموذج مشابه للاّخر المنحرف.
و في
النهاية مازلنا نعاني من أننا ننكر تأثرنا بالغرب و الشرق و نحن في الحقيقة نحيا
حياة ليست أبدًا مصرية بل هي خليط من نموذج مشوه من الثقافتين الغربية و الخليجية.
و إن كنا نريد أن نتقدم حقًا و نحافظ علي مصريتنا ، علينا أولاً أن نقرر موقفنا من
استيراد الأفكار و الثقافة و النهضة الحضارية من الاّخر سواًء من الغرب أوالشرق ،
هل سنبقي منغلقين علي أنفسنا أم سنقبل الاستيراد من الاّخر ؟ و إن كنا سنقبل ، ما
هي الاّلية التي نتبعها للحفاظ علي مصريتنا من الانطماس ؟
أؤلئك
الذين يقولون أننا يمكننا أن نحيا معتمدين علي أنفسنا وحضارتنا و ماضينا بدون حاجة إلي الاستيراد من الخارج لنحافظ علي
هويتنا يفكرون بطريقة نظرية عاطفية قومية غير منطقية ؛لأنه لا توجد أمة قادرة علي
النهضة و التقدم وحدها ،و لا أن تحيا وسط عالم بدون أن تتأثر به ، و خاصة و هي
الأضعف فيه ، و لن تستطيع أن تكون الأقوي بدون أن تتعلم و تتأثر بمن حولها .
الحضارة الغربية لم تنهض إلا عندما تعلمت و تأثرت بالتراث الإسلامي ، و الحضارة
الإسلامية قرأت و تأثرت و تعلمت و أكملت مسيرة الحضارة الرومانية ، و الحضارة
الرومانية ما هي إلا امتداد للحضارة الإغريقية ، و الحضارة الإغريقية هي امتداد
للحضارة الفرعونية و إكمال لما كان متبقيًا حينها من حضارتها ، و حتي في العصر
الحديث (اليابان) التي اخترتها نموذجي تأثرت كثيرًا و تشربت الحضارة و الثقافة
الغربية لتبني نهضتها.
و من يدعي أن الحضارة يمكن أن نستوردها بدون
الفكر و الثقافة يتحدث مجددًا بطريقة نظرية غير واقعية ، فمن ينظر إلي الحضارة
الإسلامية من كافة الأوجه بعد نهضتها اعتمادًا علي تراث الفرس و الرومان يجدها
متأثرة جدًا بثقافتهما حتي في الفنون الإسلامية ،و طريقة الحياة التي اصطبغت
بالترف الزائد الذي كان يميز الحضارة الفارسية. و من ينظر لحضارة الرومان سيجدها
مقتبسة لكثير من معالم حضارتي الإغريق و الفراعنة اللتان سبقتاها ثقافيًا و فنيًا
و حتي دينيًا. و اليابان من ينظر لها نظرة خاطفة يراها مغربة ثقافيًا إلي حدٍ
كبيرٍ.
لكن
من جهة أخري هناك دائمًا مسألة الحفاظ علي الهوية الثقافية مع الاستيراد الحضاري و
الثقافي و الفكري من الخارج ، و هي طبعًا معضلة صعبة و لكن ليست أبدًا مستحيلة. و
هذا يكون بشكل أساسي من خلال إجابة سؤالين ، الأول :" هل نستورد بدون صبغ ما
نستورده بروح ثقافتنا ؟" و السؤال الثاني :" هل نصدر كما نستورد أو أننا
نستورد فقط ؟"
أولاً : لنستورد من الخارج يجب أن نطوع كل ما نستورده للتناسب مع
ثقافتنا ، و أن نصبغه بروحٍ مصرية . أبسط نموذج ، إن استوردنا من أمريكا فكرة
البنطال الجينز ، فلنزينه برسومات من الفن الإسلامي أو الفرعوني ، و إن استوردنا
من الخليج فكرة ارتداء العباءة فلماذا بدلاً من العباءة لا نرتدي الجلباب المصري؟
إن استوردنا من أمريكا أفلام الرعب ، بدلاً من استيراد فكرة الأرواح الشريرة نصنع
رعبًا من أساطيرنا المصرية مثل الغولة و النداهة و الدمي المسكونة بالجن ( و
النموذج الأفضل لذلك هو مسلسلنا أبواب الخوف ).فلنجعل الإبداع في تمصير ما نستورده
هو منهجنا في الاستيراد للحفاظ علي هويتنا. و هذا هو ما فعلته اليابان ، فالأنمي
الياباني الذي غزا العالم هو بالأساس بدأ اقتباسًا من الرسوم المتحركة الأمريكية
ثم اصبغ عليه اليابانيون اللمسة التراثية اليابانية التي تمثلت في النينجا و
الساموراي و مبادئ الانتماء و الهوية و الولاء للقائد و القانون اليابانية ، و
عادت اليابان لتصدره للعالم بما فيه أمريكا ليصير قوتها الناعمة التي تأثر بها في
نشء العالم كله حتي بات يهدد هوية النشء الأمريكيين !
و
علي المستوي الأعمق ، عند استيراد نموذج اقتصادي مثل استيراد النموذج الرأسمالي من
الغرب أو الرأسمالي الوطني من الصين يجب أن نكون حذرين و نطوع هذا النموذج بما
يتناسب مع مجتمعنا ، و لا يسبب مزيدًا من المعاناة لما يزيد عن 40% من الشعب الذين
يحيون تحت خط الفقر.اليابان عندما استوردت نموذج الرأسمالية درست علاقته بطبيعة الشخصية اليابانية. فطبيعة شخصية
القائد ( رجل الأعمال) في اليابان الثقافية تلزمه بتقديم الرعاية الكاملة لكل من
تحت سلطته، و من الثقافة الاقتصادية العامة في اليابان بدون إلزام حكومي أن يقدم
رجل الأعمال كامل التأمين الصحي و خدمات الرعاية للعاملين. و هو ما جعل الحكومة
اليابانية تتبني دور أقل تجاه القطاع الخاص ؛لأنها تعلم أن هذا لن يؤثر كثيرًا ، و
خاصة أن لديها منظومة قوية من الشفافية ضد الفساد . أما نحن فلم ندرس ما الذي
سيترتب عليه ، اقتصاد حر بلا رقابة دولة ، مع رجال أعمال كل ما يهمهم الربح حتي لو
علي حساب العاملين ،و مع منظومة فساد متكاملة ، و دفعنا الثمن. و هنا تظهر ضرورة
دراسة ما نستورده ، و مدي ملاءمته لواقعنا ، و مدي إمكانية تطويعه مع ثقافتنا و
اقتصادنا .
ثانيًا: دور المستورد فقط هو دور
العالة ، لنكون نموذجًا حضاريًا قويًا يجب أن نعطي كما نأخذ و في مرحلة ما أكثر
مما نأخذ. طبعي في البداية و نحن ما نزال في طور النمو الحضاري أن يكون تأثيرنا
فيما و من حولنا ضعيف ، و لكن يجب أن نعمل علي تقويته تدريجيًا . إن كنا نستورد
أفكارنا السينمائية و الإعلامية من أمريكا
يجب أن يأتي وقت نصدر فيه لأمريكا أفلامنا و برامجنا بأفكارنا كما فعلت الهند
عندما استوردت في البداية من ( هوليوود) لتصير اليوم ( بوليوود ) التي تصدر للعالم
كله تقريبًا أفلامها. إن كنا اليوم نستورد من الصين كل منتجاتها حتي فوانيس رمضان
و السبح و التماثيل الفرعونية! يجب أن نعمل علي أن نصدر لها ذات يوم فوانيس
مهرجاناتها و مراوح اليد النسائية. و أن نكون أيضًا ذات يوم ندًا لها و قادرين علي
أن نصنع مثلها الصواريخ. إن كنا اليوم نستورد صيحات الملابس الغربية ، يجب أن نعمل
علي تصدير ملابسنا الفرعونية و جلابيبنا الإسلامية و السيناوية و النوبية و
الفلاحية للجميع و تصير رسومات و أشكال الملابس و الإكسسوارات المستمدة من التراث
المصري من أهم منابع تصميمات بيوت الأزياء المصرية التي يجب أن نجعلها عالمية.
نحن يجب أن نتعلم و نتأثر بالاّخرين و لكن شريطة أن نطوع كل ما نتعلمه و
نكتسبه منهم مع ثقافتنا ، و أن نختار بتأنٍ ما نريد أن نستورده و ما لا يناسبنا ،
و أن نكون تدريجيًا مؤثرين فيهم كما يؤثرون فينا و أكثر ؛لأن غايتنا الحقيقية من
هذا الاستيراد أن نكون نحن المصدرين ذات
يوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق