الجمعة، 2 نوفمبر 2012

مفهوم العقوبة


      ( هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة )

     كنت و أنا صغيرة أؤمن بدون تفكير أن العقوبة هي الرادعة  لفساد المجتمع.كنت علي يقين من أن تغليظ عقوبة الاغتصاب و التحرش مثلاً سيقضي عليهما. لم أحاول و أنا صغيرة أن أجادل الفكرة التي كنت أسمعها ممن حولي أن الحدود الاسلامية هي كفيلة بإنهاء السرقات و القتل و بصنع اليوتوبيا. و مضت بي سنوات حتي بدأ عقلي يتجه في إتجاه معاكس و ينقض كل الأفكار التي تربيت عليها ، حتي وصل إلي (مفهوم العقوبة).
       في حصة (المحاسبة ) سألنا معلمنا عن الطريقة التي نظن بها أننا سنجعل الذبون يدفع ثمن المشتريات في الوقت المناسب. كلنا انتلقنا نقول أننا سنعاقبه بطريقة ما ان تأخر ، و فجأني معلم (المحاسبة ) بأنه قال أن هذا اّخر أسلوب و لكن الأفضل أن نغري الذبون بتخفيضات إن دفع في ميعاده.و علق قائلاً أننا نظن أن العقوبة هي الطريقة التي تنفع دائماً ، و هذا غير صحيح.كانت هذه –علي ما أظن- المرة الأولي التي أفكر فيها و لو للحظات في خطأ (مفهوم العقوبة).
       جوزيف ناي (مفكر سياسي كبير و استاذ أوباما) قال أن هناك ثلاثة أساليب لجعل الفرد يفعل ما نريد ، الأول العصا (العقوبة) ، الثاني الجزرة ( الجزاء الحسن) أما الثالث فهو القوة الناعمة ، و هي إبهار الشخص بنا ليفعل ما نريد حباً فينا لا خوفاً و لا طمعاً.
        لأثبت أن (العقوبة) ليست دائماً الحل السحري ، سأذكر مثلاً بسيطاً.هناك كثير من الاًباء و الأمهات يشتكون أن أبناءهم لا يرتدعون و لا يكفون عن الخطأ مهما عنفوا و عوقبوا و ضربوا لا شيء يجدي معهم . الأزمة ليست في الأبناء و لكنها في الاًباء و الأمهات الذين ربوا أبناءهم علي أن يفعلوا الصواب خشية  (العقوبة ) لا حباً في فعل الصواب . في مقاله (تربية الأبناء) يقول ابن خلدون أن الذي يتعلم و يربي بالضرب يخسر شعوره بقيمة المعاني الانسانية ؛لأنه لم يتعلم أن يحترمها ، و يصبح فاسداً و منافقاً ؛لأنه يفعل ما يرضي الاّخرين خشية عقوبتهم .
      و كمثال اّخر نحن نطبق عقوبة الاعدام للقتل العمد و للاغتصاب ، و هي أقصي عقوبة إنسانية ممكنة ، و لكن جرائم القتل العمد و الاغتصاب تزداد بمعدل أسطوري منذ خمس سنوات (لا بعد الثورة فحسب) ؛ لأن أسباب الجرائم قائمة ، و منع وجود الأسباب و نقص التربية الصائبة و القيم المغروسة النبيلة لا يمكن ل( العقوبة ) مهما غلظت أن تكون عصاً سحرية ؛لإنهاء الجرائم.
          باختصار ،(العقوبة ) لا يجب أن يكون مفهومها عندنا  أنها طريقة تقويم الفرد أو المجتمع ، بل هي ضلع أخير في منظومة متكاملة تربوية و اجتماعية سليمة. أهم شيء لتقويم الفرد و المجتمع هو جعل كل فرد في المجتمع  راغباً في فعل الصواب ؛لأنه تعلم أن يحب هذا الصواب و يقتنع به و يوقن فيه. علينا تعلم إقناع النشئ منذ كونهم براعم صغيرة لم تتشكل بعد كيف يقررون ما الصواب و ما الخطأ و كيف يحبون فعل الصواب ؛لأجل دينهم و أخلاقهم و كرامتهم و مبدائهم؛و الأهم ؛لأنهم إقتنعوا بأن فعل الصواب لديه المردود الحسن عليهم و علي من حولهم ، و فعل الخطأ سيدمرهم و يدمر من حولهم ، لا خشية (العقوبة) أو طمعاً في (ثواب) ؛لأنه حتي الطمع في (الثواب ) ان ربينا أبناءنا عليه نعلمهم به مفهوم (الرشوة) .
         نحن للأسف نعجز عن أن نجعل أبناءنا يؤمنون بالصواب ؛لأننا دائمًا نقول لهم ما الخطأ و ما الصواب بدون أن نجعلهم يفكروا بالأمر و لا أن يؤمنوا به. نحن نقول لهم (لا تسرقوا) ، و لكننا لا نقول لهم لماذا لا يسرقوا. نقول لهم ألا يسرقوا ،حتي لا يذهبوا إلي النار(أي أننا نجددًا ) نربيهم علي الخوف من العقوبة ، و لكننا لا نقنعم بألا يسرقوا ، بأن نخبرهم بسبب خطأ السرقة ، فكل شيء صواب ما لم يكن هناك سبب منطقي لكونه خطأ.و نحن لا نقول لهم أنهم إن سرقوا سيأتي وقت يسرقون فيه كما سرقوا الاّخرين ، و إن سرق الجميع لن يحظي أحد بالأمان داخل المجتمع علي ممتلكاته/ا.نحن لا نبذل جهدًا بإقناعهم ؛لأننا لم نتربي أصلاً علي الإقتناع ،تربينا علي الوعيد أو الرشوة ، أو تقبل الصواب و الخطأ كما يمليان علينا ممن حولنا حتي و إن كان من حولنا مخطؤون.عندما نقنع أطفالنا بالصواب بالمنطق سيؤمنون به منذ نعومة أصابعهم ، و بذلك عندما يكبروا و يخرجوا من تحت سيطرتنا ، و عقابنا و رشوتنا لن يفسدوا ، و لن يقنعنهم أحد بخطأ ما هم مؤمنون به ؛لأنهم مقتنعون به فعلاً ،لا حافظين له بلا فهم ، و لا منفذينهم فقط للخوف من مغبة عدم تنفيذه.و أهم شيء أننا عندما نربيهم علي الإقتناع بالصواب ،فهم سيجدوا أنفسهم قادرين علي النقد الحر لكل ما يقال لهم و رفض الأفكار و الأخلاق التي يرفضها عقلهم و منطقهم ، حتي و إن كان يفعلها الجميع حولهم ؛لأنهم تربوا علي التفكير المنطقي و رفض كل ما هو خطأ يفسدهم و يفسد من حولهم حتي و إن قيل لهم أنه صواب.و سيدافعون عما يرونه صوابًا بعقولهم مهما ظن الجميع أنه خطأ.أي أننا عندما نقنعهم بالصواب لا نمليه عليهم ، و نجعلهم يفعلونه إقتناعنًا به لا خشية عقاب أو سيل لعاب لجزاء إنما نجعلهم لا مجرد حتفظين منفذين طائعين كالعبيد، بل أحرار يفعلون الصواب بحرية و يدافعون عنه ؛لأنهم يؤمنون به و يحبونه.
       لا جدال أنه يجب أن يكون دائماً هناك (عقوبة ) للمخطئ و (ثواب ) للمحسن ، و لكن يجب أن يكونا بعد محو أسباب الخطأ  ، و تنشئة الفرد علي محبة فعل الصواب ، و الشعور بالذنب إن فعل الخطأ ، أي أن نربي داخله كلمة راقية اسمها (نفس أبية).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق