( هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة )
كنت و أنا صغيرة أؤمن بدون تفكير أن
العقوبة هي الرادعة لفساد المجتمع.كنت علي
يقين من أن تغليظ عقوبة الاغتصاب و التحرش مثلاً سيقضي عليهما. لم أحاول و أنا
صغيرة أن أجادل الفكرة التي كنت أسمعها ممن حولي أن الحدود الاسلامية هي كفيلة بإنهاء
السرقات و القتل و بصنع اليوتوبيا. و مضت بي سنوات حتي بدأ عقلي يتجه في إتجاه
معاكس و ينقض كل الأفكار التي تربيت عليها ، حتي وصل إلي (مفهوم العقوبة).
في حصة
(المحاسبة ) سألنا معلمنا عن الطريقة التي نظن بها أننا سنجعل الذبون يدفع ثمن
المشتريات في الوقت المناسب. كلنا انتلقنا نقول أننا سنعاقبه بطريقة ما ان تأخر ،
و فجأني معلم (المحاسبة ) بأنه قال أن هذا اّخر أسلوب و لكن الأفضل أن نغري الذبون
بتخفيضات إن دفع في ميعاده.و علق قائلاً أننا نظن أن العقوبة هي الطريقة التي تنفع
دائماً ، و هذا غير صحيح.كانت هذه –علي ما أظن- المرة الأولي التي أفكر فيها و لو
للحظات في خطأ (مفهوم العقوبة).
جوزيف ناي
(مفكر سياسي كبير و استاذ أوباما) قال أن هناك ثلاثة أساليب لجعل الفرد يفعل ما
نريد ، الأول العصا (العقوبة) ، الثاني الجزرة ( الجزاء الحسن) أما الثالث فهو
القوة الناعمة ، و هي إبهار الشخص بنا ليفعل ما نريد حباً فينا لا خوفاً و لا
طمعاً.
لأثبت أن
(العقوبة) ليست دائماً الحل السحري ، سأذكر مثلاً بسيطاً.هناك كثير من الاًباء و
الأمهات يشتكون أن أبناءهم لا يرتدعون و لا يكفون عن الخطأ مهما عنفوا و عوقبوا و
ضربوا لا شيء يجدي معهم . الأزمة ليست في الأبناء و لكنها في الاًباء و الأمهات
الذين ربوا أبناءهم علي أن يفعلوا الصواب خشية
(العقوبة ) لا حباً في فعل الصواب . في مقاله (تربية الأبناء) يقول ابن
خلدون أن الذي يتعلم و يربي بالضرب يخسر شعوره بقيمة المعاني الانسانية ؛لأنه لم
يتعلم أن يحترمها ، و يصبح فاسداً و منافقاً ؛لأنه يفعل ما يرضي الاّخرين خشية
عقوبتهم .
و كمثال
اّخر نحن نطبق عقوبة الاعدام للقتل العمد و للاغتصاب ، و هي أقصي عقوبة إنسانية
ممكنة ، و لكن جرائم القتل العمد و الاغتصاب تزداد بمعدل أسطوري منذ خمس سنوات (لا
بعد الثورة فحسب) ؛ لأن أسباب الجرائم قائمة ، و منع وجود الأسباب و نقص التربية
الصائبة و القيم المغروسة النبيلة لا يمكن ل( العقوبة ) مهما غلظت أن تكون عصاً
سحرية ؛لإنهاء الجرائم.
باختصار ،(العقوبة ) لا يجب أن يكون مفهومها عندنا أنها طريقة تقويم الفرد أو المجتمع ، بل هي ضلع
أخير في منظومة متكاملة تربوية و اجتماعية سليمة. أهم شيء لتقويم الفرد و المجتمع
هو جعل كل فرد في المجتمع راغباً في فعل
الصواب ؛لأنه تعلم أن يحب هذا الصواب و يقتنع به و يوقن فيه. علينا تعلم إقناع
النشئ منذ كونهم براعم صغيرة لم تتشكل بعد كيف يقررون ما الصواب و ما الخطأ و كيف
يحبون فعل الصواب ؛لأجل دينهم و أخلاقهم و كرامتهم و مبدائهم؛و الأهم ؛لأنهم
إقتنعوا بأن فعل الصواب لديه المردود الحسن عليهم و علي من حولهم ، و فعل الخطأ
سيدمرهم و يدمر من حولهم ، لا خشية (العقوبة) أو طمعاً في (ثواب) ؛لأنه حتي الطمع
في (الثواب ) ان ربينا أبناءنا عليه نعلمهم به مفهوم (الرشوة) .
نحن
للأسف نعجز عن أن نجعل أبناءنا يؤمنون بالصواب ؛لأننا دائمًا نقول لهم ما الخطأ و
ما الصواب بدون أن نجعلهم يفكروا بالأمر و لا أن يؤمنوا به. نحن نقول لهم (لا
تسرقوا) ، و لكننا لا نقول لهم لماذا لا يسرقوا. نقول لهم ألا يسرقوا ،حتي لا
يذهبوا إلي النار(أي أننا نجددًا ) نربيهم علي الخوف من العقوبة ، و لكننا لا
نقنعم بألا يسرقوا ، بأن نخبرهم بسبب خطأ السرقة ، فكل شيء صواب ما لم يكن هناك
سبب منطقي لكونه خطأ.و نحن لا نقول لهم أنهم إن سرقوا سيأتي وقت يسرقون فيه كما
سرقوا الاّخرين ، و إن سرق الجميع لن يحظي أحد بالأمان داخل المجتمع علي
ممتلكاته/ا.نحن لا نبذل جهدًا بإقناعهم ؛لأننا لم نتربي أصلاً علي الإقتناع
،تربينا علي الوعيد أو الرشوة ، أو تقبل الصواب و الخطأ كما يمليان علينا ممن
حولنا حتي و إن كان من حولنا مخطؤون.عندما نقنع أطفالنا بالصواب بالمنطق سيؤمنون
به منذ نعومة أصابعهم ، و بذلك عندما يكبروا و يخرجوا من تحت سيطرتنا ، و عقابنا و
رشوتنا لن يفسدوا ، و لن يقنعنهم أحد بخطأ ما هم مؤمنون به ؛لأنهم مقتنعون به
فعلاً ،لا حافظين له بلا فهم ، و لا منفذينهم فقط للخوف من مغبة عدم تنفيذه.و أهم
شيء أننا عندما نربيهم علي الإقتناع بالصواب ،فهم سيجدوا أنفسهم قادرين علي النقد
الحر لكل ما يقال لهم و رفض الأفكار و الأخلاق التي يرفضها عقلهم و منطقهم ، حتي و
إن كان يفعلها الجميع حولهم ؛لأنهم تربوا علي التفكير المنطقي و رفض كل ما هو خطأ
يفسدهم و يفسد من حولهم حتي و إن قيل لهم أنه صواب.و سيدافعون عما يرونه صوابًا
بعقولهم مهما ظن الجميع أنه خطأ.أي أننا عندما نقنعهم بالصواب لا نمليه عليهم ، و
نجعلهم يفعلونه إقتناعنًا به لا خشية عقاب أو سيل لعاب لجزاء إنما نجعلهم لا مجرد
حتفظين منفذين طائعين كالعبيد، بل أحرار يفعلون الصواب بحرية و يدافعون عنه ؛لأنهم
يؤمنون به و يحبونه.
لا جدال أنه يجب أن يكون دائماً هناك
(عقوبة ) للمخطئ و (ثواب ) للمحسن ، و لكن يجب أن يكونا بعد محو أسباب الخطأ ، و تنشئة الفرد علي محبة فعل الصواب ، و
الشعور بالذنب إن فعل الخطأ ، أي أن نربي داخله كلمة راقية اسمها (نفس أبية).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق