(هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).
واقعة شارلي هيبدو واقعة تكررت وقائع كثيرة
مماثلة لها في الماضي. تختلف الشخوص و الحيثيات و لكن الجوهر واحد، و الدروس بين
تلك الوقائع مشتركة. ليس الأمر حتي مقتصرًا فقط علي الإسلام، المسلمين ، الغرب،
المهاجرين، جرائد السخرية. جوهر الواقعة حدث و يحدث بأشكال متعددة، جوهر الواقعة
هو مفاهيم أشمل مثل "الاختلاف"، "التقبل"،
"الأقليات"، "الظلم" و "التطرف".
لا يجب أن
يتم النظر إلي واقعة شارلي هيبدو علي أنها واقعة هجوم من متطرفين مسلمين علي جريدة
سخرت من رسولهم –صلي الله عليه و سلم- بطريقة تثير مشاعر المسلمين. هذه نظرة
قاصرة. واقعة شارلي هيبدو هي واقعة صغيرة معبرة عن واقع يخلق ما هو أسوأ، واقع
يحتاج تحليله و تغييره حتي لا يخلق مزيدًا من الوقائع التي تبدو مختلفة و هي في
واقعها متشابهة جدًا.
الدرس الأول:
الهجوم الذي
تم علي الجريدة ليس خطأ فرديًا للجريدة أو تطرف من مجموعة لا تمثل المسلمين. الهجوم
هو تعبير عن توابع نظام ظالم يجعل المسلمين في أوروبا يشعرون بالاضطهاد. مسلمو
أوروبا يدفعون ثمن كونهم مسلمين، كونهم أقلية بسلبهم كثيرًا من حقوقهم العقائدية،
و حقوقهم في حرية التعبير عن هويتهم الدينية. علاوة علي استبعادهم من أغلب المناصب
القيادية في الدولة إلا في حالات استثنائية لشخوص بعينهم. مسلمو أوروبا يجدون مضطرين
لدفع ثمن صورة نمطية سلبية عنهم، برفضهم من كثيرين حولهم، و اقتناع من حولهم أنهم
حتمًا أقل تقبلاً للاّخر و ربما أكثر ميلاً للعنف.
يتم اختزال
معاناة المسلمين الأوروبيين في منع الحجاب أو النقاب لكن أزمة المسلمين أكبر من
ذلك. منع الحجاب أو النقاب صورة من صور رفض المجتمع لتعبيرهم عن هويتهم لكن هذا
الرفض يأتي أعمق في حياتهم اليومية. يدفعون الثمن في كل موقف يشعرون فيه أنهم
مكروهون، و أن الكثيرين يرونهم خطرًا أو عبئًا علي الدولة مهما كانت درجة انتمائهم
لها أو حتي أحيانًا تمسكهم بأفكارها و مبادئها. هم ضحايا صورة ذهنية نمطية يروجها
الإعلام و يستغلها اليمين المتطرف.
الثمن
يدفعونه أيضًا من الدولة الأمنية التي تقرر أنهم المشتبه بهم رقم 1 في أي جريمة ترتكب
تبدو ذات طابع سياسي. هم في نظر الدولة و الإعلام، و الساسة و حتي المواطنيين
العاديين مجرمون متطرفون حتي يثبت العكس. و يترتب علي ذلك أحيانًا ارتكاب جرائم
ضدهم تعد خرقًا لقيم الحرية و المساواة المقدسين في العقلية الأوروبية.
علاوة
علي صراعهم في مجتمع لا يقبل اختلافهم و يراه تخلفًا و تطرفًا. و صراعات الهوية
التي يعانون منها، و التي جزء من سببها أن المجتمع لا يقبل أن يعيش فيه أفراد بفكر
مختلف و طريقة حياة مختلفة، لا يقبل التعدد بمفهومه الأشمل.
كل هذه
المعاناة تدفع كثيرًا من المسلمين في أوروبا للشعور بأنهم ليسوا جزءًا من المجتمع،
و الإيمان بأن هويتهم الإسلامية متعارضة مع هويتهم الأوروبية بل و لها الأولوية. و
الاضطهاد يدفع بكثير منهم نحو طريق العنف. و هم في ذلك ليسوا استثناءًا غريبًا بل
هم يمثلون تجسد قاعدة هامة هي الدرس الأهم في واقعة شارلي هيبدو :
"الظلم يورث الدم"
تحول مسلمي أوروبا إلي طريق العنف، و إنضمام بعضهم إلي داعش، أو مجموعات
إرهابية أخري، ما هو إلا نموذج من نماذج كثيرة للعنف الذي ينتج عن اضطهاد
الأقليات. لا يقتصر الأمر علي الإرهاب بل إن حروبًا أهلية و مذابح كمذبحة رواندا
سببها الحقيقي الظلم الطائفي.
هذا الدرس درس عام لكل نظام اجتماعي أو اجتماعي سياسي. هذا الدرس مصيري،
يرتبط بالدماء الإنسانية. لا يوجد إرهاب إلا و خلفه ظلم. و معالجة الإرهاب هي
استئصال الظلم لا زيادة تدابيره لتعجيز المظلومين أكثر و أكثر.
الدرس الثاني:
الرسومات المسيئة للرسول –صلي الله عليه و
سلم- أزمتها الحقيقة ليست في مسألة تجسيد الرسول –صلي الله عليه و سلم- أو إهانته
فقط، و لكن أزمتها أيضًا في أنها تزرع صورة ذهنية نمطية سلبية عن المسلمين بل و
العرب في العقلية الغربية. هذه الصورة تعمل علي إشعال الكراهية ضد المسلمين في
أوروبا. و تعمل من جهة أخري علي إزكاء الكراهية داخل المسلمين لأوروبا و قيمها
التي تبرر الاعتداء علي مشاعرهم الدينية بل و رسم صورة بعيدة عن الواقع و بربرية
عنهم.
الهجوم المتطرف علي الجريدة كان إحدي نتائج زرع الكراهية المتبادل، لكن
الهجوم في حد ذاته عامل زرع كراهية ضد المسلمين من غيرهم في أوروبا رغم أن كثيرًا
من مسلمي أوروبا دعموا حملة "أنا شارلي" المتضامنة مع الجريدة. الهجوم
أدي إلي حملة بعنوان "قتل المسلمين" تعبر عن الكراهية التي خلفها الهجوم.
و الحملة ذاتها أزكت مشاعر الكراهية ضد أوروبا، و شعور كثير من المسلمين أن العالم
كله يحاربهم.
الدرس هنا أن "الكراهية دائرة"، الكراهية تورث كراهية، و كل عمل
يزكي الكراهية مثل رسم صورة إعلامية نمطية عن الاّخر أو كتابة جملة تعبر عن
الكراهية يلعب دورًا في الدائرة. الأزمة أن الدائرة لتنقطع يحتاج ذلك أن يرفض طرف
الرد علي الكراهية بكراهية مماثلة. أو يكون الحل ليس بقطع دائرة الكراهية بل بخلق
دائرة حب مقابلة لدائرة الكراهية.
الدرس الثالث:
كل الأطراف خاسرة في واقعة شارلي هيبدو، خاصة
المسلمين الأوروبيين الذين سيشهدون أيام اضطهاد ربما أقصي بعد أن بدأ تقبلهم
سياسيًا، كل الأطراف خاسرة عدا طرف واحد فقط. الطرف الوحيد المستفيد هو
"اليمين المتطرف".
اليمين المتطرف يهاجم المهاجرين منذ زمن، و أغلب تركيزه علي تضييق الخناق
عليهم و بخاصة العرب و المسلمين. اليمين المتطرف يجد أمامه فرصة تاريخية لتحقيق
الفوز السياسي عن طريق التلاعب بالمشاعر المعادية للمسلمين و هي في أوجها عقب
الواقعة. و المكسب السياسي الذي قد يحققه اليمين المتطرف لن يكون مجرد النجاح في
اكتساب مناصب سياسية، بل سيكون النجاح في فرض مزيدًا من السياسات الاضطهادية ضد
العرب و المسلمين.
"الكراهية لا فائز فيها إلا الفاشية".