السبت، 31 يناير 2015

قصص بشر (2)

(هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).

(2)
إخوانية
         يرونها مجرمة و خائنة و إرهابية. يرونها متشددة، و متعصبة و رافضة للمختلف/ة عنها. يرونها كل شيء هم أقرب كثيرًا إليه و هي أبعد ما يكون عنه. إنسانة تقبل المختلف/ة عنها، و تستمع إليه/ا و تعرف كيف تحاور، كيف تفكر كإنسانة لديها منطق و مشاعر بشرية. لا ترفض المختلف/ة عنها أيًا كان، و مهما بلغت درجة اختلافه/ا معها فكريًا أو حتي مهما رأته/ا بأفكارها ضد مبادئها. و الأكثر إدهاشًا أن كل ما سأروي قاسته لم يغير شيئًا صغيرًا من نقاء قلبها، لم يلوثها و يجعلها تتعطش لدماء حتي من يتعطشون لدمائها و دماء من تحب.
         رأت الموت و واجهته كثيرًا، و لكن ربما الأصعب من رؤية الموت رؤية من يطبلون له، من يتعطشون للدماء. كأي إخوانية تتظاهر و لو حتي بملابس بيضاء تواجه الرصاص، و تري من يفرحون في دماء من حولها عندما تسيل.
          والدها اعتقل و تلاه أخوها الذي أمضي عامًا محبوسًا حتي خرج. و أخوها الأصغر أصيب برصاص في قدمه، لكنها لحسن الحظ كانت إصابة سطحية. احتفلت بزفافها دون والدها و لا أخيها الأكبر. بيت عائلتها هوجم و حطمت و سرقت كثيرًا من محتوياته. قريبتها الطفلة التي لم تتجاوز الثانية عشرة كانت بالمنزل وقت اقتحامه، وضع الضابط المسدس برأسها و سألها عن مكان قريبها، فأخذت ترجوه ألا يقتلها.
              في فترة فكرت رقم 2 ألا تنجب حتي لا تفقد من تنجب.
         و رغم كل ذلك، ظلت إنسانة. رغم كل ذلك، لم تحمل دم أحد، لم تطلب الدماء، لم تبررها، لم تقبل حتي بالسباب و اعتبرتها خارجة عن التربية الدينية التي تربت عليها. يعسر تخيل أن من عانت كل ذلك يمكن أن تبقي محافظة علي مبادئها و فوقها إنسانيتها و قبولها للمختلف/ة.

           و يرونها من بعيد هي المجرمة التي تؤمن بالعنف و ترفض المختلف/ة و الإرهابية! و هم من يبررون دمها، و كل ما تقاسيه لمجرد كونها تحمل فكرًا سياسيًا و دينيًا مختلفًا عنهمَ. من منهم الإرهابي؟ من منهم المؤمن بالعنف؟ من منهم يرفض المختلف/ة لمجرد اختلافه؟ من منهم المجرم؟ هي أم المجتمع؟

الاثنين، 26 يناير 2015

سأحيا لأجل بشر

   (هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).

  منذ عام تهاويت، جذبت ملابسي كالمجنونة و أنا أبكي و أصرخ، و كدت أضع لحياتي حدًا. لم أجن، لم أفقد صوابي، فقط رأيت جانبًا من حقيقة وطن و شعب دفعاني لما هو أفظع من اليأس. رأيت من حولي ليسوا بشرًا، بل وحوش متعطشة لدم المختلف لمجرد كونه المختلف. كان بإمكاني أن أصمد و أقاتل و لا أفكر في إنهاء حياتي إن اقتصر الأمر علي إجرام دولة، أو طغيان حاكم مستبد أو حتي قتل سفاحين باسم حماية الوطن. لكن ما لم أكن استطيع تحمله هو فاشية الشعب، فاشية من حولي، و تجردهم من الإنسانية بحيث يصفقون و يطبلون تشجيعًا للقتل و يرقصون فوق الدماء.
      لم أكن داخلي أقويَ علي فكرة العيشة وسط من تجردوا من الإنسانية. كنت أعاني و أنا أري من حولي، من أحب نصفين، كل نصف يبرر دم الاّخر و مستعد لأن يسيل دماء الاّخر بيديه. يصعب وصف شعوري و أنا أعرف أن من حولي، بل من أحب قتلة و فاشيون. يصعب وصف شعوري و أنا لا أحتمل العيش وسط اللاإنسانية، بين اللا بشر.
      حينها كدت أقرر تركهم، و الرحيل، و أوقفني شعوري أنني سأكون نذلة إن تركت أمي وحيدة و هي لا تملك سواي. حينها وقفت بجواري صديقة تحملت أكثر بكثير مني، و هي تري أهلها يعتقلون و صديقاتها تترملن و من حولها يقتلون نصب عينيها. وقفت بجواري و قوتني، لم تكن وحدها، غيرها وقفوا بجواري أيضًا.
      خلال هذا العام حدثت لي أشياء كثيرة، و أخذت قرارت حررتني، و جعلتني أعرف أن حولي كثيرين بشر. صحيح أن حولي فاشيين، لكن كذلك حولي بشر يحبونني و أحبهم و يتمتعون بالإنسانية. رأيت فيهم خيرًا و حبًا جعلاني أقرر أنني لن أنتحر. أقرر ذلك لا لأجل خوفي علي أمي و لا تحديًا و صمودًا و قتالاًَ هم واجبي كمقاتلة لكن لأن هناك أمل في البشر؛ لأن حولي بشر، لم يخسروا إنسانيتهم رغم كونهم جزًء من مجتمع يخسر الإنسانية؛ لأن حولي من يحبونني و أحبهم،

                 سأحيا لأجل البشر.  

قصص بشر -رقم 1

(هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).


(1)
امرأة- مثلية-لادينية
       اخترت أن تكون الأولي، ليس لأنها أول من خطر ببالي عندما فكرت في كتابة هذه السلسلة بل؛ لأنها من أكثر من غاص ألمهم عميقًا داخلي، و جعلني  أكره المجتمع أكثر و أكثر. إنها من أكثر من أثروا فيّ و جعلوني أصر أن أمضي في قتالي ضد المجتمع و طغيانه.
        تعذبت طويلاً وحيدة. عانت طويلاً مع الدين، و حاولت أن تجبر نفسها أن تؤمن به، و كانت متدينة متشددة حتي عانت من الوسواس القهري. احتقرت نفسها؛ لأنها شيء يرفضه الدين، لم تحاول مثل الغالبية إنكار مثليتها، و لكنها احتقرت نفسها عليها و كرهتها حتي تلذذت بتعذيبها. أحبت فتاة، و تألمت لحبها، و وجود تلك الفتاة وحده جعلها تشعر أنها ليست وحيدة و أن هناك شيء في الحياة يستحق أن تحيا لأجله. و عندما رحلت تلك الفتاة عادت إليها وحدتها، و اشتد تفكيرها في الدين، و بدأت تعذب نفسها لتشعر أنها مرتاحة لتتحرر من احتقارها لنفسها، كادت تصير سادية و كادت تصل لإنفصام الشخصية. صراعها مع الدين أجبرته الصمت، اكتفت بإجبار نفسها علي تصديق ما لا تؤمن به.  حاولت أن تبحث عن من يعينونها علي فهم الدين أكثر علها تؤمن به لكنهم كلهم كرهوها في الدين أكثر، و لم يملكوا إجابات. تعرفت علي رجل عرف كيف يستغل نقاط ضعفها و كراهيتها لنفسها، و ربما رغبتها في أن تثبت لنفسها أنها ليست مثلية، فتلاعب به ليأخذ منها متعته الجنسية رغم أنه أخبرها أنه متزوج.
      لم ينقذها إلا ظهور صديقة في حياتها "س". تلك الصديقة شعرت بها، و سألتها عن سر معاناتها و وجدت رقم 1 نفسها تحكي ل "س" كل شيء. "س" شعرت أنها أمام أشجع فتاة عرفتها؛ لاعترافها لها بكل شيء. "س" ساعدتها و ذهبت بها إلي طبيبة نفسية ثم إلي كنيسة لتتطلع علي الدين المسيحي. رقم 1 أمضت وقتًا طويلاً مذبذبة بين المسيحية و الإسلام حتي قررت أن تعتنق المسيحية ثم بعد  فترة قررت أن تصير لا دينية، أن تتبع الإله الذي أحبها و أحبته و بعث لها من يحبونها و يساعدونها، و تعبده بطريقتها بعيدًا عن الدين الذي شوه صورته لديها.
      تحررت من الظلام تدريجيًا بعد معرفتها ب "س". أخبرت كل من حولها بحقيقة أفكارها الدينية و ميولها الجنسية. و كانت فترة عصيبة جدًا. أكثر من سبعة رجال طلبوا منها طلبات جنسية تصل حتي العلاقة الكاملة؛ لأنهم حكموا أن "مثلية"  و و "لا دينية" مساويان ل"عاهرة". أحدهم عرض عليها أن يحضر لها مخدرات و داعرة مقابل علاقة جنسية معه! كل مرة صدمت و بالكاد نحن-قليل من أصدقائها- أنقذناها من أيديهم. اّخر مرة وجدتها تتصل بي لتقول لي: "أنا وسخة". رأت نفسها هي القذرة ما دام أغلب الرجال رأوها كذلك دون أن تفعل لهم أي شيء. كل مرة حاول رجل اسغلال ضعفها و جرحها بطلبه أو أسئلته الفجة، كان خنجر يدس داخلي و أكره المجتمع أكثر. 
       حتي من لم يطلبوا منها علاقات جنسية، حكموا عليها أحد حكمين –سواءً كانوا رجالاً أو نساءًا- إما أنها مريضة نفسية و مجنونة و تحتاج منهم قبولها بسبب مرضها، أو أنها فاسدة أو ضعيفة الإيمان تحت مستواهم، مع أن كثيرًا منهم أبعد ما يكون عن الأخلاق أو المباديء. لا أحد منهم فهم كيف تسبب لها في المعاناة، لا أحد منهم فهم كيف جرحها، و ساهم في معاناتها النفسية و العصبية و في لحظة فكرت في الانتحار من قبل.
       تركت تفاصيل كثيرة ناقصة في القصة. ذكرت فقط علامات معينة في قصتها أثرت فيّ، و لكن حقيقة معاناتها أكبر، و هناك أشياء لا استطيع أن أرويها الاّن عنها. أنتم-أغلبكم- لا تعرفونها، لكن إن عرفتموها ستكرهون المجتمع مثلي أكثر؛ لأنها إنسانة صافية شديدة النقاء بشكل نادرٍ وجوده في مجتمعنا. إنها إنسانة بكل معني الكلمة، لا تحمل ضغينة و لا شرًا و لا كراهية رغم كل ما واجهته. و يندر أن تقابلوا إنسانة تحمل رؤيتها الصافية المحبة المثالية للإله. إنها تراه بصورة أنقي من كل من قابلت. تراه بصورة تجعلني أحبه؛ لأنه بعث لها من وقفوا بجوارها وسط معاناتها.
     بقي شيء أخير. أنا مدينة لها، لم أكن لأواجه المجتمع ما لم تواجهه هي قبلي. لم أكن لأواجه نفسي و صراعاتي، ما لم تواجهها هي قبلي. عندما قرأت جزءًا من قصتها منها أول مرة شعرت بكم هي مشابهة لي، ربما لذلك أثر فيّ ألمها أكثر من الغالبية. لكنني وأنا أكتب الاّن أري بوضوح أكبر، كم نحن متشابهتان.
     أتذكر الاّن ألمي لأجلها، و لأجلها لن أصمت عن حق المظلومين. لن أسكت علي ظلم المجتمع.  

قصص بشر

   (هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).

   من أهم الدروس التي تعلمتها خلال العام الماضي و التي غيرت كثيرًا من نظرتي للعالم حولي و زرعت داخلي أمل، أن البشر مهما بلغت درجة رفضهم للمختلف/ة، فذلك ينبع من رؤيتهم للمختلف/ة لا كإنسان/ة بل كفكرة يرفضونها. و لذلك فبمجرد معرفتهم للمختلف/ة كإنسان/ة ربما يتحرك داخلهم تغيير تجاه نظرتهم تجاهه/ا.  تعلمت هذا الدرس بتجارب لي و لاّخرين حولي، و اّمنت به.
       لذلك قررت أن أري من حولي المختلف/ة كإنسان/ة، أن أجعلهم يعيشون معاناته/ا و يشعرون بها. قررت أن تكون رسالتي نقل حياة الأقليات، نقل معاناة كل إنسان/ة مرفوض/ة؛ لأنه/ا مختلف/ة. و قررت أن يكون طريقي لذلك قلمي، حياتي. و الاّن سأبدأ كتابة سلسلة مختصرة علي الفيسبوك و مدونتي تحت عنوان "قصص بشر"،و هي شبه مقتبسة من نظام متبع في بعض الصفحات لنشر قصص أعضائها. هذه السلسلة ستحوي قصصًا حقيقية لناس أعرفهم، سأرمز إليهم بأرقام بعد إذنهم. هذه القصص تختلف عن كل ما كتبت؛ لأنها لن تحوي حرفًا واحدًا متخيلاً يخدم طابع الأدب، ستكون بالكامل قصصًا حقيقية، قصص بشر من لحم و دم لا أفكار.


الثلاثاء، 13 يناير 2015

الدور الوظيفي للدين في تبرير الفاشية

  (هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).     

لا يمكن وصف قسوة حياة من يرفضهم المجتمع و يجعلهم يعيشون عيشتين و عندما يختارون مواجهته يدفعهم الثمن ليس بالتهميش و لا بالإقصاء و لا حتي بالإهانة و التعذيب اليومي وحدهم، بل أيضًا باستغلال سلطة الدولة –التي تعد صورته الشرسة الأكثر تحكمًا بالإرادة- في قمعهم و تجريسهم و سجنهم و تعذيبهم و أحيانًا حتي قتلهم.
        المجتمع يدفعهم نحو عيشة الظلام المزدوجة؛ يدفعهم ليعيشوا حياة كاملة من الكذب. إنه يعشق أن يكذب عليه، يعشق الكذب و يأبي أن يسمع للحظة صوت الحقيقة. المجتمع يعلم أن الكثيرين فيه –إن لم تكن الأغلبية- لا يخضعون لقواعده و شريعته، لكن يكفيه أنهم يظهرون أمامه كما يريدهم، متدينين و محافظين.
         الدين في المجتمع ليس له المكانة المقدسة التي تربينا علي تصديقها "شعب متدين بطبعه". الدين في المجتمع مجرد قناع ليبرر إجرامه، ليبرر فرضه لكل ما هو غير منطقي. أحيانًا يتم إقرار أفكار و سلوكيات في المجتمع علي أنها مفروضة دينيًا بينما يرفضها الدين. المجتمع هو الذي يصيغ الدين لا العكس. و الدولة الديكتاتورية ما هي إلا الكيان الذي خلقه المجتمع ليمارس القمع علي كل أقلية يرفضها؛ لأنها لا تناسب مقاسه، سواءًا صنفها كأكثر تشددًا أو تحررًا مما يروق له. الدولة الديكتاتورية هي تجسيد لرغبة مجتمع أشد ديكتاتورية و فاشية منها بمراحل.   
          كريم البنا شاب في مثل عمري (إحدي و عشرين عامًا) حكم عليه بالسجن ثلاثة أعوام، لماذا ؟ لأنه أعلن علي حالة في الفيسبوك أنه ملحد. والده نفسه شهد ضده و كأنه يظن أنه يطهر شرفه من عار ابنه. كل ما يعلم عن كريم و غيره الكثير من الملحدين مجرد أخبار إلقاء القبض عليهم أو سجنهم، لا قصة تروي عن حياتهم، عن معاناتهم، عن مجتمع فرض عليهم عيشة الظلام و دفعهم ثمن الصدق معه باهظًا جدًا.
           يسهل علي كل من لم يعشوا عيشة اللادينيين و الملحدين أن يدينونهم. كثيرون يحكمون عليهم بكل كبرياء علي أنهم كفرة، و يريدون أن يمارسوا الجنس أو يرتكبوا شتي صور الفجور لذلك يختارون الإلحاد أو اللادينية (الإلحاد يعني عدم الإيمان بوجود إله، بينما اللادينية تعني الإيمان بوجود إله لكن عدم الإيمان بأي دين). كثيرون يظنون أن الملحدين لم يعرفوا الدين، أو مرضي نفسيين. قليلون جدًا اختاروا أن يعرفوا أحد الملحدين أو اللادينيين معرفة إنسانية طويلة، ليعرف/تعرف حقيقة معاناتهم.
            اختيار الإلحاد أو اللادينية وسط مجتمع يدعي التدين هو حكم بالعذاب مدي الحياة علي النفس. لا يوجد كثيرون يختارون هذا الحكم إلا بعد عذاب صراع طويل جدًا. الصراع يأتي مع مجتمع يدعي التدين و يرتكب كل الجرائم ضد الإنسانية بيد دولته باسم الدين. الصراع يأتي مع سلطات دينية تعلم اللا إنسانية و الفاشية باسم الدين. الصراع يأتي مع متدينين عاديين لا حتي متطرفين يقبلون بأي جريمة مهما بلغت بربريتها و دمويتها فقط؛ لأنهم يؤمنون أن الدين قبل بها، بل ربما أمر بها. الصراع يأتي مع نصوص دينية تبرر كل صور الاعتداء و الظلم باسم صيانة الدين و المجتمع. الصراع يأتي عندما يكون الخيار بين الإنسانية و الدين، فيأتي الكفر بالدين و أحيانًا إن إشتد الصراع يأتي الكفر بالإله تمامًا.
         الغالبية الكاسحة من الملحدين و اللادينيين يواجهون معارف و أهل يرفضونهم و أحيانًا يهددونهم بالقتل (دون مبالغة). الغالبية الكاسحة تخاف أن تنطق، تخرس أسئلتها قبل أن تترك الدين، و يكتم صوت نقدها عندما تتركه. الغالبية الكاسحة تعاني إهانة كثيرين حولها و إساءتهم الظن بها. و أقلية تجد الرفض يبلغ الاعتداء الفعلي أو حتي البطش بيد الدولة في صورة السجن.
          إنه ظلم بين تقبله الأغلبية، لماذا؟ باسم الدين لكن ربما الواقع بسبب رفض الاختلاف، و الرعب منه، و كراهية المختلف/ة. كثيرون لا يصدقون أنه ظلم؛ لأن لهم العدل و ما يرتضيه الدين واحدًا بل لو تصادما فالدين أولي من العدل. ربما يحسبون ذلك ليبرروا لأنفسهم كراهية المختلف/ة، يبرروها بأنه/ا أدني منهم و سيذهب/ستذهب إلي النار بينما هم سينالون الجنة. الدين يلعب دورًا وظيفيًا، دورًا اجتماعيًا في تبرير الفاشية.      


الجمعة، 9 يناير 2015

دروس من واقعة شارلي هيبدو

     (هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).

    واقعة شارلي هيبدو واقعة تكررت وقائع كثيرة مماثلة لها في الماضي. تختلف الشخوص و الحيثيات و لكن الجوهر واحد، و الدروس بين تلك الوقائع مشتركة. ليس الأمر حتي مقتصرًا فقط علي الإسلام، المسلمين ، الغرب، المهاجرين، جرائد السخرية. جوهر الواقعة حدث و يحدث بأشكال متعددة، جوهر الواقعة هو مفاهيم أشمل مثل "الاختلاف"، "التقبل"، "الأقليات"، "الظلم" و "التطرف".
       لا يجب أن يتم النظر إلي واقعة شارلي هيبدو علي أنها واقعة هجوم من متطرفين مسلمين علي جريدة سخرت من رسولهم –صلي الله عليه و سلم- بطريقة تثير مشاعر المسلمين. هذه نظرة قاصرة. واقعة شارلي هيبدو هي واقعة صغيرة معبرة عن واقع يخلق ما هو أسوأ، واقع يحتاج تحليله و تغييره حتي لا يخلق مزيدًا من الوقائع التي تبدو مختلفة و هي في واقعها متشابهة جدًا.
الدرس الأول:
     الهجوم الذي تم علي الجريدة ليس خطأ فرديًا للجريدة أو تطرف من مجموعة لا تمثل المسلمين. الهجوم هو تعبير عن توابع نظام ظالم يجعل المسلمين في أوروبا يشعرون بالاضطهاد. مسلمو أوروبا يدفعون ثمن كونهم مسلمين، كونهم أقلية بسلبهم كثيرًا من حقوقهم العقائدية، و حقوقهم في حرية التعبير عن هويتهم الدينية. علاوة علي استبعادهم من أغلب المناصب القيادية في الدولة إلا في حالات استثنائية لشخوص بعينهم. مسلمو أوروبا يجدون مضطرين لدفع ثمن صورة نمطية سلبية عنهم، برفضهم من كثيرين حولهم، و اقتناع من حولهم أنهم حتمًا أقل تقبلاً للاّخر و ربما أكثر ميلاً للعنف.
      يتم اختزال معاناة المسلمين الأوروبيين في منع الحجاب أو النقاب لكن أزمة المسلمين أكبر من ذلك. منع الحجاب أو النقاب صورة من صور رفض المجتمع لتعبيرهم عن هويتهم لكن هذا الرفض يأتي أعمق في حياتهم اليومية. يدفعون الثمن في كل موقف يشعرون فيه أنهم مكروهون، و أن الكثيرين يرونهم خطرًا أو عبئًا علي الدولة مهما كانت درجة انتمائهم لها أو حتي أحيانًا تمسكهم بأفكارها و مبادئها. هم ضحايا صورة ذهنية نمطية يروجها الإعلام و يستغلها اليمين المتطرف.   
       الثمن يدفعونه أيضًا من الدولة الأمنية التي تقرر أنهم المشتبه بهم رقم 1 في أي جريمة ترتكب تبدو ذات طابع سياسي. هم في نظر الدولة و الإعلام، و الساسة و حتي المواطنيين العاديين مجرمون متطرفون حتي يثبت العكس. و يترتب علي ذلك أحيانًا ارتكاب جرائم ضدهم تعد خرقًا لقيم الحرية و المساواة المقدسين في العقلية الأوروبية.
         علاوة علي صراعهم في مجتمع لا يقبل اختلافهم و يراه تخلفًا و تطرفًا. و صراعات الهوية التي يعانون منها، و التي جزء من سببها أن المجتمع لا يقبل أن يعيش فيه أفراد بفكر مختلف و طريقة حياة مختلفة، لا يقبل التعدد بمفهومه الأشمل.
          كل هذه المعاناة تدفع كثيرًا من المسلمين في أوروبا للشعور بأنهم ليسوا جزءًا من المجتمع، و الإيمان بأن هويتهم الإسلامية متعارضة مع هويتهم الأوروبية بل و لها الأولوية. و الاضطهاد يدفع بكثير منهم نحو طريق العنف. و هم في ذلك ليسوا استثناءًا غريبًا بل هم يمثلون تجسد قاعدة هامة هي الدرس الأهم في واقعة شارلي هيبدو :
"الظلم يورث الدم"
           تحول مسلمي أوروبا إلي طريق العنف، و إنضمام بعضهم إلي داعش، أو مجموعات إرهابية أخري، ما هو إلا نموذج من نماذج كثيرة للعنف الذي ينتج عن اضطهاد الأقليات. لا يقتصر الأمر علي الإرهاب بل إن حروبًا أهلية و مذابح كمذبحة رواندا سببها الحقيقي الظلم الطائفي.
          
           هذا الدرس درس عام لكل نظام اجتماعي أو اجتماعي سياسي. هذا الدرس مصيري، يرتبط بالدماء الإنسانية. لا يوجد إرهاب إلا و خلفه ظلم. و معالجة الإرهاب هي استئصال الظلم لا زيادة تدابيره لتعجيز المظلومين أكثر و أكثر.

 




الدرس الثاني:

       الرسومات المسيئة للرسول –صلي الله عليه و سلم- أزمتها الحقيقة ليست في مسألة تجسيد الرسول –صلي الله عليه و سلم- أو إهانته فقط، و لكن أزمتها أيضًا في أنها تزرع صورة ذهنية نمطية سلبية عن المسلمين بل و العرب في العقلية الغربية. هذه الصورة تعمل علي إشعال الكراهية ضد المسلمين في أوروبا. و تعمل من جهة أخري علي إزكاء الكراهية داخل المسلمين لأوروبا و قيمها التي تبرر الاعتداء علي مشاعرهم الدينية بل و رسم صورة بعيدة عن الواقع و بربرية عنهم.
       
       الهجوم المتطرف علي الجريدة كان إحدي نتائج زرع الكراهية المتبادل، لكن الهجوم في حد ذاته عامل زرع كراهية ضد المسلمين من غيرهم في أوروبا رغم أن كثيرًا من مسلمي أوروبا دعموا حملة "أنا شارلي" المتضامنة مع الجريدة. الهجوم أدي إلي حملة بعنوان "قتل المسلمين" تعبر عن الكراهية التي خلفها الهجوم. و الحملة ذاتها أزكت مشاعر الكراهية ضد أوروبا، و شعور كثير من المسلمين أن العالم كله يحاربهم.
       
        الدرس هنا أن "الكراهية دائرة"، الكراهية تورث كراهية، و كل عمل يزكي الكراهية مثل رسم صورة إعلامية نمطية عن الاّخر أو كتابة جملة تعبر عن الكراهية يلعب دورًا في الدائرة. الأزمة أن الدائرة لتنقطع يحتاج ذلك أن يرفض طرف الرد علي الكراهية بكراهية مماثلة. أو يكون الحل ليس بقطع دائرة الكراهية بل بخلق دائرة حب مقابلة لدائرة الكراهية.

الدرس الثالث:

      كل الأطراف خاسرة في واقعة شارلي هيبدو، خاصة المسلمين الأوروبيين الذين سيشهدون أيام اضطهاد ربما أقصي بعد أن بدأ تقبلهم سياسيًا، كل الأطراف خاسرة عدا طرف واحد فقط. الطرف الوحيد المستفيد هو "اليمين المتطرف".
    
       اليمين المتطرف يهاجم المهاجرين منذ زمن، و أغلب تركيزه علي تضييق الخناق عليهم و بخاصة العرب و المسلمين. اليمين المتطرف يجد أمامه فرصة تاريخية لتحقيق الفوز السياسي عن طريق التلاعب بالمشاعر المعادية للمسلمين و هي في أوجها عقب الواقعة. و المكسب السياسي الذي قد يحققه اليمين المتطرف لن يكون مجرد النجاح في اكتساب مناصب سياسية، بل سيكون النجاح في فرض مزيدًا من السياسات الاضطهادية ضد العرب و المسلمين.
      
         "الكراهية لا فائز فيها إلا الفاشية".      
 



الأحد، 4 يناير 2015

مؤسسات القمع الثلاث و تغيير وضع الأقليات

    منظومات القمع متعددة تمثلها الدولة بمؤسساتها، و المجتمع، و الدين. كل مؤسسة منهم تملك قانونها، و بقانونها تحكم بالتعظيم أو الإدانة لأفعال أو أشخاص بعينهم. و كل مؤسسة تمتلك أسلحتها التي تنفذ بها أحكام قوانينها. الدولة تمتلك القانون و تمتلك القوة المتمثلة في السجن و الإجبار علي دفع الغرامات، و حتي الإعدام، المجتمع يملك العرف قانونًا و يملك العقوبة بالإقصاء أو التهميش. و الدين يملك قانونه فقهه و عقوبته مؤجلة للاّخرة حيث الجحيم.
    أحيانًا كثيرة تتصادم المؤسسات الثلاث. أحيانًا تختلف علي مفهومها للصواب و الخطأ. أحيانًا تقبل منظومة منهم، بل و تعظم ما ترفضه و تدينه الأخري. حينها تمسك إحداها بالسوط بينما تعطي الأخري الجزرة.  مثال علي ذلك يكون عندما يرفض المجتمع تسلط و بطش الدولة الطاغية، و يقدس من يقف/ تقف أمام جورها. حينها ستدينه/ا الدولة، و تنكل به/ا و ربما تعدمه/ا، لكن سيعظمه/ا المجتمع و ربما يألهه/ا حتي بعد رحيله/ا. مثال اّخر عندما تكرم الدولة العلمانية كاتب/ة ينتقد/تنتقد الدين في موقفه من علاقة الدين بالسياسية. حينها ستعظم الدولة الكاتب/ة، و لكنه قد يكون/ تكون مرفوضًا/ةً من الدين أو المجتمع المتدين.
    لكن في حالات ثالثة يتكاتف المجتمع و الدين و الدولة ضد فرد أو مجموعة محددة. حينها يعاني الفرد أو المجموعة من بطش المؤسسات القمعية الثلاث. هذه حالة طوائف عديدة بالمجتمع المصري، مثل الملحدين، و اللادينيين و البهائيين، و المثليين، و مزدوجي الميل الجنسي، و المتحولين جنسيًا أو الراغبين فيه. هذه الطوائف تعاني من قمع مضاعف؛ لأنها ليست مرفوضة من فصيل بعينه أو من مؤسسة واحدة بل من جميع المؤسسات الاجتماعية و مدانة منها جميعًا.
    الدولة عندما تشن حربًا ضد الملحدين أو المثليين أو المتحولين جنسيًا فهي لا تخاف أن يتصدي لها المجتمع أو الدين. و ربما ذلك يعد سببًا في السرعة النسبية لإجراءات إدانة المثليين مقارنة ببقية الطوائف التي تحاربها الدولة مثل اليسار و الإسلاميين. ففي حالة اليسار و الإسلاميين تعلم الدولة أن جزًء من المجتمع قد يعتبرهم أبطالاً، و أن الدين قد يدعم في إحدي قراءاته الإسلاميين بينما المثليون مرفوضون من المجتمع و الدين أو بالتعبير السوقي "مالهمش دية".
    لو كانت الدولة تدعم حقوق المثليين ضد المجتمع مثل الوضع في تركيا مثلاً لكان الوضع أيسر علي المثليين في مصر. و لو كان المجتمع يدعمهم ضد الدولة كما هو حال اليسار لكان الوضع أيسر، و لو كانت إحدي قراءات الدين تدعمهم مثل الإسلاميين لكان وضعهم أيضًا أيسر. لكن الأزمة أن المثليين مثل الملحدين و البهائيين و المتحولين جنسيًا و مزدوجي الميل الجنسي مرفوضين من الجميع.
     هل يعني ذلك أنه لا أمل؟
     لا، هذا غير صحيح. لكن الأمل يكمن في التغيير الذي يبدأ من المجتمع لا من الدولة و لا من الدين. الدين بطابعه مؤسسة متجمدة تتغير بعد تغير المجتمع بفترة، و الدولة ليست قادرة علي إملاء إرادتها علي المجتمع و الدين مهما إدعت الجبروت. الدولة تستطيع فقط أن تعمل في إطار يسمحون به. المجتمع هو الذين يدفع قراءة الدين للتغير. تفسير الدين المختلف يحدث بتغيير موقف المجتمع. و الدولة تجبر علي التغيير لتواكب المجتمع مهما كانت ديكتاتورية. الديكتاتورية السياسية ذاتها يجب أن تحتمي بالمجتمع و إلا سقطت. فكرة الحاكم الأب محتمية بمفهوم الأب اجتماعيًا.
       التغيير الوحيد الحقيقي يكون بتغيير مفهوم المجتمع. طبعًا التحدي شديد الصعوبة، و التغيير الاجتماعي تغيير تحتي لذلك يحتاج لوقت أطول، لكنه الوحيد الذي يستطيع التأثير في وضع فرد أو مجموعة بجد. مسألة تغيير المجتمع تتطلب أن يفهم المجتمع حقيقة الطوائف التي يرفضها. أزمة الملحدين و اللادينيين و البهائيين و المثليين و مزدوجي الميل الجنسي و المتحولين جنسيًا جزء كبير منها يكمن في كون هذه الطوائف مغلقة علي نفسها، لديها خوفها المبرر من الانفتاح علي المجتمع، و أن المجتمع لا يعرف أفراد هذه المجموعات كبشر، بل يراهم مجرد فكرة دنسة يشمئز منها. كل فرد في المجتمع حوله كثير من أفراد هذه الطوائف لكن لا يبوحون له/ا بحقيقتهم خوفًا من عدم تقبله/ا لهم. إن عرف هذا الفرد و غيره/ا أن هؤلاء المحيطين به الذين يحبهم و يعرفهم كبشر من الطوائف التي يرفضها/ترفضها، قد يرفضهم/ ترفضهم و لكن يحتمل أيضًا أن يراجع/تراجع أفكاره/ا عن هذه الطوائف؛ لأنه وجد أنه/ا يعرف/تعرف أحد أفرادها كبشر.
       مواجهة المجتمع ليست خيارًُا سهلاً، و ليس بيد الكل، و لكن بمواجهة البعض للمجتمع، و خروجهم من علبهم الصغيرة يمكن للمجتمع أن يتغير، و يغير قوانينه القمعية، و حينها ستجبر مؤسستي الدولة و الدين علي مواكبة تطور المجتمع أو علي الأقل التغاضي عنه.