( هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة ).
ديميس روسوس واحد من رواد و أساطير غناء
(الروك) في الستينات و السبعينات و من أشهر أغنياته التي يعرفها جيل اّبائنا و
أجدادنا هي أغنية (بعيد جدًا) ، و هي ليست أغنية رائعة و مؤثرة و حسب بل ذات إيقاع
أصلي مبتكر سرق كثيرًا و غنت عليه فيما بعد أغنيات و حتي إعلانات كثيرة.بيع له
أربعين مليون ألبومًا ! وهو ذا شهرة عالمية ،له اسم لامع في أمريكا اللاتينية و
أوربا طبعًا و الولايات المتحدة ، و غني بلغات عدة منها (اليابانية)، و جولاته
الموسيقية الناجحة بلغت دبي و روسيا،و له شهرة واسعة في ترانيمه المسيحية التي جاب
كنائس العالم مغنيها. اختفي عن الأضواء
أعوامًا طويلة ليعود في 2009 .
فنان عالمي بكل معني الكلمة،أليس كذلك ؟ و لكن
لماذا أكتب عنه الاّن ؟ لعلكم تتساّلون ، أنا لا أكتب عن مغنين أجانب، و لست ناقدة
موسيقية ، و لا أكتب إلا بغاية معينة .لماذا أكتب عن مغنِ أجنبي الاسم ،شهير ،
يغني بالانجليزية و مضي علي عودته للغناء ثلاث سنوات و علي غيابه قبلها ربما عقود.
و من أربعة أو خمسة أجيال قبلي ؟
الحقيقة أنه
ليس أجنبيًا ، إنه مصري. مصري إسكندارني المولد، يوناني الأصل.
إنه مصري
،كان يمكن أن يكون مصريًا حتي النهاية ، كان يمكن أن تستمر عائلته بمصر ، كان من
الممكن أن يكون مغنيًا عالميًا مصريًا ، كان من الممكن أن يكون جزًء من نهضة
موسيقية بمصر. كان من الممكن أن يحيا هنا ، كان يمكن أن يكون مصريًا اليوم.
لماذا
رحل والداه ؟ لماذا رحل ؟ لماذا هو الاّن يوناني ؟لماذا لم يبقي ؟ لماذا ليس
مصريًا رغم أنه ولد بأرضنا ، و شرب من نيلنا الذي في أساطيرنا من يشرب منه يعود
إليه ؟
لقد
تربي الستة عشرة سنة الأولي التي تشكل وعي الإنسان بالعروس ، عروس الأبحر ، عروس
حسناء جميلة شقراء سمراء،فاتنة ناضجة قوية ،ترتدي ثوبًا إغريقيًا يكشف كتفها و
تمسك شعلة بيدها .إنها أجنبية مصرية ،قبطية مسلمة ، رومانية يونانية إسلامية مصرية
. تغطي الاّن بالأقمشة ، تطمس الاّن بالنقاب.
لماذا
رحل عن الحسناء ؟ لماذا ترك عروس الأبحر و رحل ؟
والداه لم
يستطيعا البقاء ، رجل أحببته و احترمته و عشقته سنوات طردهم ، أجبرهم علي الرحيل
بعد أن سلبهم كل شيء. لقد رحلوا قسرًا بعد أن خسروا كل شيء في أزمة السويس علي يد
الزعيم الذي هللت له الجماهير ،علي يد (عبد الناصر).
ديميس لم
يرحل وحده مع والديه، رحل معهم اّلاف ، عشرات الاّلاف من اليونانيين و الأجانب
الأصل ، مصريو الجوهر و الانتماء. لم يرحلوا أيضًا وحدهم ،رحل معهم مصريو الأصل و
الانتماء قسرًا أيضًا ؛لأنهم يهوديو الديانة.
لم
يبكي رحيلهم أحد ، لم يعبأ بهم أحد. كلهم مضوا عميًا خلف الزعيم ينصرونه ،و يهللون
له حتي هزم و رحل فولي الجماهير عنه أيضًا. لماذا لم يبكي رحيلهم أحد حتي الاّن ؟
لماذا لم يفكر أحد حتي في أن ينعي ذلك الرحيل ،أو أن يؤرخ له ؟ لماذا لم تذرف دمعة
واحدة علي رحيل عشرات اّلاف ممن عاشوا لعقود بل لقرون علي أرض وطن كان ذات يومِ
ملجأ كل الأعرق ، و مدينة حوت كل الثقافات؟
لم يبكهم أحد ؛لأن الجميع رأوا أنهم
ليسوا مصريين . اّمنوا من داخلهم أن من ليس بثقافتهم ، و لهجتهم و الأهم دينهم ليس
مصريًا. أنا لا أبالغ؛ إنني أقول الحقيقة الكامنة داخلنا جميعًا حتي الاّن.
لم
يبكي أحد اليونانيين و الأجانب الذين عاشوا عمرهم بمصر ، و أولادهم لم يعرفوا
وطنًا سواها ؛لأن الجميع رأوا من ليس مصريًا ولد بمصر و يتحدث اللكنة المصرية هو
ليس/ت مصريًا/ةً.لم يكن أحد يبالي برحيل من نظر إليهم دومًا كضيوف ليسوا بأصحاب
أرضٍ .لم ينعي أحد اليهود ؛لأن أحدًا لم يرَ اليهود المصريين مصريي الأب والجد ،و
الذي بعضهم أشد انتماًء لهذه الأرض من أبنائها ، لم يرهم أحد مصريين ؛لأنهم ليسوا
علي دينه/ا ،لأنهم يهود.
أجل
،لقد طرد اليهود و اليونانيون ، و الأجانب ،الذين لم يعرفوا يومًا وطنًا سوي مصر ،
و بعضهم وقف بعناد أقوي من عناد أغلب المصريين ضد الصهيونية قبل ظهور إسرائيل و هي
مجرد فكرة تنشأ ، و تتولد.أجل ، هم طردوا ، ربما ليس بالقوة الخشنة ،و لكنهم إجبروا
علي الرحيل بعد أن خسروا كل ما ملكوا ، و بعد أن وجدوا وجودهم مرفوضًا علنًا من
مجتمع يجهر برفضهم.
لماذا
أكتب عن تاريخٍ مضي الاّن ؟ لماذا أكتب عن (بعيدٍ جدًا) لم و لن يعود ؟ لماذا أنعي
قتيلاً مضي علي حتفه عقودًا ، و تحللت عظامه ،و صار جزًء من الثري ؟ لماذا ؟
لماذا تنزل دموعي الاّن ؟ لماذا أبكي ذلك القتيل الذي لم ألقه في حياتي ؟ و
لم أعرفه إلا بعد الرحيل بعقود ؟
لماذا أبكي ؟
لماذا أكتب ؟
إن
دموعي ليست علي قتيل الأمس البعيد ، دموعي أيضًا تنهمر علي حي يقتل أمام عينيَّ
الاّن. دموعي علي الأرض التي تقتل من جديد و ينتزع منها أبناؤها علي مراّي منها
مرة اّخري.
بلادي تنتحب من جديد.أولادها يرحلون عنها من جديد بنفس الطريقة و لنفس
الغاية.
المسيحيون الاّن يرحلون ، يرحلون قسرًا. إنه الفصل الجديد من التراجيديا.
إنه فصل جديد من الرحيل.
عروس
الأبحر ،التي كانت يومًا يونانية رومانية ، مصرية أجنبية ، مسيحية يهودية
مسلمة.تلك الحسناء الاّن ترتدي النقاب ،لا صوت فيها سوي صوت الخليج ،احتل بحرها من مياه الخليج العربي ،تصحرت
أرضها برمال الشرق.
و
بلادي التي كانت بها عروس الأبحر ، التي كانت ذات يومٍ تأوي الجميع ، اليوم يطرد
منها الجميع بالدور. الدور اليوم علي المسيحيين ،
و الغد لن يبقي في مصر سوي المسلمين الذين كثير منهم بل ربما أغلبهم يؤمنون
أن مصر ليست سوي حقهم هم ، و ضيفة عليهم أقلية مسيحية تطلب أكثر من حقوق الضيف.و
سيأتي يوم يطرد فيه مسلمون أيضًا يراهم الجميع ضيوف غير مرغوبٍ فيهم ربما لمذهبهم
، ربما لرأيهم السياسي أو الثقافي ، ربما حتي لطريقة ملبسهم من يدري الدور سيكون
مستقبلاً علي من ؟
إنني
أنعي اليوم البعيد جدًا . أنعي كل البعيدين.أنعي من رحل و من سيرحل. أنعي
اليونانيين المصريين، أنعي الأجانب المصريين ، أنعي اليهود المصريين ، أنعي
المسيحيين المصريين الذين رحلوا و الذين يرحلون الاّن بعد الثورة ، و الذين
سيرحلون عما قريب ، و أنعي أيضًا هؤلاء الذين لا أعرفهم الذين سيحل الدور
عليهم.ربما العلمانيين ،الذين يشهر بعض ذوي الذقون الطويلة و الجلاليب القصيرة رغبتهم
في رحيلهم ،فهم طبعًا ضيوف ليسوا مصريين ؛لأنهم لا يؤمنون بالدولة الإسلامية ،و
لأنهم يدافعون عن حقوق الراحلين.و ربما لا يأتي
الدور علي العلمانيين ، لكن مؤكد إن استمر الرحيل ،و رحل المسيحيون سيأتي
الدور علي مصريين اّخريين ليرحلوا و يسلبوا مصريتهم.و من يدري ربما ينعاني أحد ذات
يوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق