السبت، 12 ديسمبر 2015

إلم ندافع الاّن فلأشرف أن نعتزل الكتابة إلي الأبد.

   (هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).

    منذ فترة طويلة ابتعدت عن قلمي. قرار واعٍ، نابع من أسباب عميقة و تراكمات ألم. أردت الابتعاد حتي أخفف عن نفسي الضغط، و الألم. أردت أن أرحم نفسي التي عذبتها معي في قتالي، نفسي التي تستحق مني الرحمة، نفسي التي عندما تنفجر، و تنتقم، تعرف كيف ترديني أرضًا. أردت ألا أظلمها أكثر، قابتعدت.

    ابتعدت كذلك؛ لأنني أردت أن أتغير، و أغير أسلوب كتابتي. ابتعدت؛ لأنني عدت أشعر أننا صحنا كثيرًا، و قلنا كل ما يمكن أن يقال، و لا تؤثر كلماتنا الاّن. لا أحد يريد أن يسمع/تسمع.

       و ابتعدت؛ لأنني تعبت، تعبت بعمق.

      لكنني الاّن يجب أن أكتب، إلم أكتب الاّن، فسأكون قد خنت أهم مباديء قلمي. إلم أكتب الأّن، فربما من الشرف أن أعتزل الكتابة للأبد. إلم أدافع عن حرية القلم، فلا يحق لي حمله. شرف القلم حريته، و إلم أدافع عن حريته، سأتنازل عن شرفه، و إن تنازلت عن شرفه، لا أملك شيئًا من شرف حمله.

       ما يحدث الاّن مع أحمد ناجي تهديد لكل قلم. كل كاتب/ة يصمت/تصمت عما يحدث مع أحمد ناجي مهدد/ة أن يأتي يوم، و يقصف قلمه/ا، مهدد/ة أن يلقي/تلقي السجن  عقوبة لكلمة حررها قلمه/ا. أحمد ناجي مهدد بالسجن (هو و طارق طاهر رئيس تحرير مجلة الأدب) لنشره فصلاً من روايته  بمجلة الأدب. لم يعجب الفصل أحد القراء، فبكل بساطة قدم بلاغًا ضد أحمد ناجي و لقي بلاغه إهتمامًا أمنيًا، و اليوم كانت محاكمة أحمد ناجي و طارق طاهر بتهمة "خدش الحياء العام"، و يوم 2 يناير الحكم في القضية.

        تهمة "خدش الحياء العام" تهمة مطاطة؛ لأن "الحياء العام" مفهوم مطاط و نسبي. يمكن بكل بساطة أن يعتقل أي كاتب/ة بهذه التهمة، و يجد نفسه/ا في السجن بسبب عمل أدبي حر. لا يمكن لأديب/ة أن يظن/تظن نفسه/ا محصن/ة من هذه التهمة بحجة إلتزامه/ا ب"الأخلاقيات العامة"، ف"الأخلاقيات العامة" أيضًا مفهوم مطاط و نسبي، و يمكن لأحد القراء رؤية عمل أي كاتب/ة كعمل فاجر أو خادش للحياء أو داعٍ للفتنة، و بموجب تهمة "خدش الحياء العام"، يمكن أن يجد أي كاتب/ة نفسه/ا في السجن، لأنه/ا لم يرضِ/ترضِ ذوق أحد القراء. هذا تهديد عنيف لحرية القلم. هذه جلدة تهدف لارتعاش الأقلام. كل كاتب/ة قد يخاف/تخاف انتقاد الأفكار الدينية أو الاجتماعية بشكل مباشر، و صريح خشية الملاحقة القضائية.

        إن صمتنا الاّن عما يحدث مع أحمد ناجي، فسنخاف جميعًا غدًأ الكلمة حتي المتخيلة، و الأشرف لنا أن نعتزل الاّن عن رؤية ذلك اليوم.

           الكتابة جزء عميق مني، مهما طال بعدي عنه، سأعود إليه ذات يوم. مهما طال بعدي عن قلمي أعود. و لن أسمح لنفسي أن أخسر احترامي أمام نفسي، أو صدقي مع قلمي. و الأشرف، و الأصدق مع قلمي إن صمت علي قهر حريته أن أتركه. و ما دمت أتمسك بقلمي كجزء من روحي، و مادمت أتمسك بشرفه، فلن أصمت.عن حريته. لن أصمت عن حق كل كاتب/ة في التعبير عن رأيته/ا، و لا في تحدي المجتمع بنقد الواقع أو بالخيال.

          لأجل شرف القلم، أدافع عن أحمد ناجي. لأجل شرف القلم يجب أن نقاتل حتي النهاية دفاعًا عن حرية القلم أو لنحترمه و نتركه للأبد.

           أحب القلم،
           اخترت القتال.

http://albedaiah.com/news/2015/10/31/99467

السبت، 15 أغسطس 2015

بالأمس كانت ذكري خيانتنا -متي نكسر الدائرة؟

(هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).

      منذ ما يزيد عن عامين، كتبت هذا المقال وقت فض ميداني رابعة و النهضة تحت عنوان "الاّن ثبتت خيانتنا":

"       الاّن ثبتت خيانتنا. الاّن أثبتنا أننا خنا القيم التي قاتلنا لأجلها ، و قبلنا الضرب بها عرض الحائط لأجل التخلص من ما تبقي من صداع الإخوان. الاّن لا تعنينا حرية ، و لا عدالة ، و لا ديمقراطية ، و لا حتي إنسانية ، لا نأبه لأي منهم ،لا نهتم.
     نري فض الاعتصام أمام أعيننا علي الشاشات داخل بيوتنا فنبرره بل و نصفق له بكل حرارة. لا نتذكر أبدًا أننا كنا منذ أقل من شهرين مستعدين لقلب وطننا رأسًَا علي عقب إن هوجمت مظاهرة أو اعتصام واحد لنا ضد نظام مرسي .نسينا بل تناسينا بسرعة كل ما وقفنا ضده بصلابة،تغاضينا بسهولة عن ما فتحنا صدورنا للنيران لأجله.
     كاذبون. نحن الكاذبون.
     مجددًا أطرح السؤال ، هل كنا سنقبل بفض اعتصامنا ضد مرسي أو المجلس العسكري أو مبارك من قبل ؟ هل كنا سنتعاطف مع الفض و نعتبره قانوني؟ لماذا لم نعتبر الاعتصام لأشهر في التحرير ضد المجلس العسكري ثم مرسي جريمة أو وقف لحال سكان عقارات التحرير ؟
     هل نقول الاّن أننا مختلفون ؟ هل نقول أنهم إرهابيون يحملون السلاح و نحن سلميون حقًا ؟
    إن كنا نقول ذلك فلنتذكر ماذا كان يقال عنا من قبل .
   ألم يقل نظام مبارك أن الثوار أصحاب أجندات خاصة و أجنبية أي خونة ؟
  ألم يقل المجلس العسكري "خونة" بتدريب خارجي علي معارضيه ؟   
ألم يقل إخوان مرسي علي كل من ضدهم فلول و منحلون كفرة ؟      
الأّن يقال علي أنصار مرسي إرهابيون.
   كل نظامٍ لديه تهمة للمعارضين تبرر له القمع، بدونها سيعري عن حقيقته ، سيكشف الستر عن الوجه القبيح ، عن عمامة السلطان الجائر ، عن اليدين الملطختين بالدم.
     لا أعلم إن كان هناك سلاح في يد المتظاهرين فعلاً أم لا مع أن معي شهادة أحد أقربائي داخل رابعة العدوية برؤيته للسلاح بعينيه. لا أعرف إن كان السلاح ملك أغلب المتظاهرين أم عناصر بينهم. لكني أعرف أن هذا يلزم بإلقاء القبض علي المسلحين و التصدي لهم إن لزم الأمر بالسلاح، لكنه لا يبيح أبدًا قتل المدنيين العزل الذين يدافعون عن أرائهم و أفكارهم أيًا كانت. في 25 يناير ، و المظاهرات ضد المجلس العسكري ثم المظاهرات ضد مرسي ، في كل الأوقات كانت هناك شبهة عناصر مسلحة بين المتظاهرين لكن ذلك لم يكن شفيعًا لدينا ضد ما تعرض له المتظاهرون السلميون ، فسيكون ازدوجًا أن يشفع الاّن.
        أقولها ثانية ، لنكن صادقين قليلاً مع أنفسنا و نقف ضد ما يحدث الاّن كما وقفنا ضد ما شابهه في الماضي ، حتي لا نكون كاذبين ، حتي لا نحمل دم أحد ، حتي لا تدور علينا الدائرة ثانية ذات يوم و نجد التهم توجه إلينا ، نجد غيرنا يصفق و دماؤنا تسيل،تضيع وسط صوت التصفيق."

         لم أنشر ذلك المقال حينها، لكن تأكد لي كل يوم أنني كنت محقة. كل يوم حمل لي إيمانًا يقينيًا أن كل ما مررنا به من قمع هو ثمن لحظة خيانة مبادئنا، و قبولنا بالظلم، و القمع لمن نراه خطأ. تلك اللحظة، كانت لحظة حاسمة؛ لأنها حملت إشارة لشكل مصر ما بعد فض ميداني رابعة و النهضة، ليست مصر الظلم، و القمع فقط، لكن مصر الفاشية، مصر التي يقبل كل فرد فيها إضطهاد الاّخر/ي، بل يصفق، و يطبل له، مصر التي تدهس فيها كل أقلية؛ لأن الأغلبية تراها خطأ.

         اليسار دفع ثمن خيانته لمبادئه، و الغالبية الكاسحة من نشطائه يقبعون خلف القضبان الاّن. اليسار دفع ثمن أنه في لحظة وافق أن يبيع إيمانه بالحرية، و العدالة للتخلص من اّخر يرفضه، و يريد الانتقام منه. و كل أقلية في مصر وجدت نفسها تدفع ثمن كونها أقلية، و ربما كذلك ثمن قبول الكثيرين فيها باضطهاد الاّخر/ي. الإخوان دفعوا ثمن ما فعلوه قبل و أثناء بقائهم في السلطة، و عانوا الظلم و القمع، و القتل،  القانوني و غير القانوني، و بدأ كثيرون منهم يؤمن بالحل العنيف. الملحدون و مختلفي الميول الجنسية و الجندرية بدأت حملة قاسية ضدهم، بل أقسي من أس حملة حدثت في عصر ميارك أو مرسي. جميع الثوريين الحقيقيين بغض النظر عن توجههم السياسي لقوا حتفهم أو أعتقلوا أو هربوا خارج مصر أو اضطروا لقبول الأمر الواقع القمعي و تغيير أسلوبهم أو أحبطوا و اّمنوا ألا أمل من قضية التغيير في مصر.

          كل ظلم خلفه لحظة تنازل عن المباديء، لحظة يقبل فيها بظلم الاّخر/ي، و سلبه/ا لحقه/ا. الظلم دائرة، و نحن ندفع ثمن دعمنا للظلم. كما قبلنا بظلم الاّخر، يقبل غيرنا ظلمنا. لن نحيا في وطن عدل أو حرية أو أمان بصدق حتي يكسر أحد الدائرة، حتي يرفض أحد الظلم للاّخر/ي مهما راّه خطأ.

          لن نتحرر حتي نكسر الدائرة.
      
            

الأحد، 17 مايو 2015

اخلع/ي قناعك-اليوم العالمي ضد رهاب المثلية

       (هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).

      الخوف من الاّخر/ي دائمًا خلفه درجات مختلفة من الجهل. مجتمعنا يجبرنا أن نرتدي أقنعة تحجب وجوهنا الحقيقية عن بعضنا البعض، لنظل جميعًا مناسبين للصورة الواحدة المفروضة التي نرسمها علي القناع. و أحيانًا يصل قمع المجتمع إلي ضغطنا لنرتدي هذه الأقنعة أمام المراّة، لنخادع أنفسنا و نجعلها تؤمن أن صورتنا الحقيقية هي الصورة المرسومة علي القناع، الصورة التي يريدها المجتمع.  تظل حقيقتنا سجينة خلف القناع، لذلك يصعب أن نعرف بعضنا، أن نعرف صورتنا الحقيقية.
         أغلب أزمات اضطهاد الأقليات سببها الجهل بحقيقتها. الأقليات تنغلق في مجتمعات صغيرة و ترتدي أمام المجتمع الكبير أقنعة، بل أحيانًا تطمس حقيقتها و تدعي أنها جزء من الأغلبية (وهذا يحدث مع الأقليات الجنسية و الجندرية بالذات). هذا يسهل علي المجتمع الكبير اضطهادها، بل و أحيانًا إنكار وجودها. الخوف خلفه الجهل بالأقلية و التفكير فيها كعدو خطير يهدد الأغلبية لا كبشر من لحم و دم نقابلهم كل يوم، و ربما جزء منا يشابهم.
           الأقليات الجنسية و الجندرية في العالم العربي تعيش في الغالبية الكاسحة من الحالات في الظلام، تجبر علي ارتداء أقنعة كاذبة أمام المجتمع و أحيانًا أمام مراّتها. أحيانًا يعاني المثليون و المثليات من خوف من أنفسهم هو انعكاس لخوف المجتمع منهم. المجتمع يراهم خطرًا يهدد أمنه، يراهم أقلية صغيرة تختار الفسوق و تهدد بنيانه. الأفراد يظنونهم بالضرورة متحرشين و منحرفين. لا أحد يتخيل/تتخيل أن علي الأقل واحد/ة من كل عشرة يعرفهم/تعرفهم مثلي/ة أو مزدوج الميل الجنسي أو مضطرب/ة الهوية الجندرية.
            ما يعمق الخوف أنه نادرًا ما يواجه/ تواجه مثلي/ة أو مزدوج الميل الجنسي أو مضطرب/ة الهوية الجندرية المجتمع. نادرًا ما يمنح الأفراد فرصة معرفة إنسان/ة من لحم و دم من الأقلية التي يظنونها بعيدة و منحرفة و شاذة و متحرشة. نادرًا ما يمنح الأفراد فرصة الشعور بمعاناة مختلفي الميول الجنسية و الجندرية و حقيقة أوضاعهم و اّلامهم. نادرًا ما يمنح الأفراد فرصة التواصل الإنساني مع المختلف/ة.
             أعلم أن هذا صعب، و لا يناسب الجميع، لكن الحل الحقيقي أن يظهر مختلفي الميول الجنسية و الجندرية و يواجهوا المجتمع و يعرفوا من حولهم أنفسهم كبشر لا كمجرد فكرة يحتقرونها. الحل أن نبدأ حوارًا حقيقيًا مع من حولنا حول إنسانية مختلفي الميول الجنسية و الجندرية. المواجهة صعبة، لكن المواجهة بإنسانيتنا هي الخيار الوحيد ليعرفنا المجتمع كبشر، و فقط عندما يعرفنا كبشر سيمكن أن يتخطي كثيرًا من خوفه منا.


الجمعة، 1 مايو 2015

فتح الجيتوهات

      (هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).

      عاش اليهود في المجتمعات الأوروبية طويلاً في مجتمعات صغيرة مغلقة تسمي "الجيتو". هذه المجتمعات أغلقت تمامًا عليهم، و عيشتهم أغلبها بقت ضمن هذه المجتمعات المغلقة الصغيرة. و رغم اضطهادهم داخل تلك المجتمعات إلا أنه سمح لهم بالعمل في إقراض النقود بالربا، و قد حلل د.عبد الواهاب المسيري ذلك بأن المجتمعات الأوروبية في تلك الفترة احتاجت "جماعة وظيفية" (كما أسماها د. عبدد الوهاب المسيري) تقوم بأداء العمل الضروري المرفوض اجتماعيًا لكن تظل منبوذة اجتماعيًا.
           تجربة الجيتو اليهودي ليست تجربة شديدة التفرد بل هي تجربة نشأت في مجتمعات كثيرة في أوقات متعددة اضطهدت فيها الأقليات و تم نبذها، فأنشأت مجتمعات صغيرة تعيش فيها بمعزل عن الأغلبية، و في بعض الأحيان تتعقد المجتمعات بحيث يصير الأفراد قادرين علي أن يكونوا جزءًا من أقلية (أو مجموعة مضطهدة) و أغلبية في نفس الوقت، مثل المسلم الإخواني؛ فهو ضمن الأغلبية المسلمة لكنه ضمن الأأقلية الإخوانية  أو اللادينية الثرية، فهي ضمن الأاقلية لكونها لادينية، لكنها ليست ضمن المجموعة المضطهدة (الفقراء)؛ لأنها ثرية. في مثل هذه الحالات يضطر الفرد لأن  يتواجد/تتواجد داخل المجتمع و يلعب/تلعب دورًا وسط الأقلية و وسط الأغلبية، بل ربما يتواجد/تتواجد ضمن عدة جيتوهات في نفس الوقت.
           لنأخذ نموذج مسيحي بروتستنتي متشكك، من عائلة ثرية، يعمل في شركة والده، متعلم و يساري معارض للنظام. هو يلعب دورًا داخل جيتو المسيحيين البروتستنت و يذهب إلي الكنيسة و يحضر الاجتماعات و مدارس أحد و يشارك في تنظيم الحفلات و الرحلات. يلعب دور المتشكك في جيتو المتشككين و اللادينيين و الملحدين و يجتمع بأصدقائه من هذا الجيتو و يتحدثون و يستمع إليهم حتي يكون رأيه النهائي تجاه الدين. يلعب دور معارض النظام و يجتمع بأصدقائه المعارضين علي مقاهي وسط البلد و في مقرات الحركات الثورية و ينزل معهم المظاهرات و أحيانًا يسافرون أو يخرجون معًا كمجموعة أصدقاء. و في محيط عائلته الثرية يجبر أحيانًا علي التعامل مع أصدقاء عائلته من جيتو الأثرياء (مع أنهم ليسوا مجموعة مضطهدة إلا أنهم يعيشون في جيتو).
           عيشة هذا الشخص ليست غريبة تمامًا؛ كثيرون في المجتمعات يعيشون عيشة يبدلون أدوارهم فيها بين أفراد في جيتوهات مختلفة.  لكن الأبشع أن هؤلاء الأفراد يصعب أن يلتقوا بل يخافون الإلتقاء. لنتخيل إخواني يعيش في جيتو الإخوان أو مثلي من عائلة صعيدية يعيش في جيتو المثليين (عيشة ظلامية) و جزء من جيتو الصعايدة . صعب أن نجعل إخوانية تتعامل مع يساري أو مثلية مع غيري (و المثلية لا تخفي هويتها) أو مسلمة متشددة  مع ملحدة أو ضرير مع مبصرين. الجيتوهات مغلقة إلي حدٍ بعيد و لا يسمح لأحد بالاقتراب منها، و هذا يعمق غياب الفهم و الكراهية بينها.
           الأزمة الحقيقية تكمن في الخوف و الكراهية و الجهل. الأقليات تخاف التعامل مع بعضها. الأفراد يخافون التعامل مع مختلفين عنهم، يخافون اضطهادهم و رفضهم. تخاف الملحدة أن تتعامل مع منقبة؛ لأنها تظنها سترفضها و ستراها مستحقة لحد الردة (رغم أن المنتقبة ليست بالضرورة متشددة أو مقتنعة بحد الردة). يخاف المسلم المتشدد التعامل مع مسيحي متشدد؛ لأنه قد يراه مهددًا لإيمانه. تخاف المثلية إعلان مثليتها لغيري؛ لأنها تخاف أن يحتقرها أو يظنها عاهرة أو يقول لها أنها تستحق النار.  الجهل بالاّخر/ي يسهل الخوف منه/ا، و الخوف و الجهل يصنعان كراهية الاّخر، و ما يغذي هذه الكراهية و الخوف هما الجهل، و ما يسمح باستمرار الجهل هو عدم التعامل مع الاّخر/ى، هو الانغلاق في جيتوهات.
             منذ ما يزيد عن عامين كتبت مقالاً تحت عنوان "لن أحيا في جيتو"، قلت فيه أنني لن أخاف و أعيش حريتي في مجتمعي الصغير (الجيتو) بل سأواجه المجتمع الكبير و سأعيش كما أنا، و أرتدي ما أريد في الشارع و لم أكن أعلم حينها إلي أين سأصل في عدم خوفي  و مواجهتي للمجتمع  الكبير. و لم أكن أعي حينها عمق ما قد يوصل إليه انقسام المجتمع إلي جيتوهات متباعدة غريبة لا تعرف بعضها و تكره بعضها. لم أكن أعي حينها أن ذلك طريق نهايته الدماء، بل و الفرح في دماء الأّخر/ي.

           و أعرف الاّن أن جزءًا من الحل يكمن في فتح الجيتوهات. أعلم الاّن أو جزءًا من الحل هو جعل أفراد هذه المجتمعات الصغيرة يتشجعون و يعرفون أفراد المجتمعات الأخري، لكني أعلم جيدًا أن ذلك يحتاج شجاعة نادرة. اخترت أن أنفتح علي كل المجتمعات و تقريبًا لدي أصدقاء أو أقارب في الغالبية الكاسحة من هذه الجيتوهات، و أدخلها و أحاول أن أجعل أفرادها يعرفون بعضهم. أريد أن يفعل الكثيرون ذلك. أري ذلك حلاً, لكني أدرك كم يحتاج ذلك شجاعة لا يمتلكها الكثيرون، لكن استمرار انغلاق الجيتوهات قد يعنس استمرار الجهل بالاّخر/ي، الخوف و الكراهية و بالتبعية الدماء و الرقص علي الدماء.

الاثنين، 20 أبريل 2015

لماذا مقاطعة إسرائيل؟

(هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).

  اليوم المؤتمر الصحفي لحركة BDS لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية و الشركات الداعمة لإسرائيل.

   عندما كنت في الصف السادس الإبتدائي، تحدثت معلمتي عن مقاطعة أمريكا أثناء حرب العراق قبلها بعامين. في تلك اللحظة، فكرت لأول مرة في المقاطعة، و خلال عامين دربت نفسي لعلي الابتعاد عن المنتجات الأمريكية، و في الصف الثاني أو الثالث الإعدادي (لا أذكر بالضبط) نفذت قراري و بدأت المقاطعة فعليًا.

     جاءتني لحظات، رغبت فيها شيئًا أو كدت أضعف (خاصة عندما أحتاج مياهًا و لا أجد سوي مياه تتبع شركات أمريكية أو أوروبية داعمة لإسرائيل، لكنني في تلك اللحظات ذكرت نفسي بأنني لأجل لذة بسيطة أو عطش، أدفع أموالي و أتسبب في دماء إنسان/ة. و في خلال ست أو سبع سنوات، لم أخرج عن المقاطعة سوي ثلاث مرات في ظروف بعينها.

       استمراري علي المقاطعة نابع من كوني إنسانة، لا عربية أو مسلمة أو ذات ميول يسارية. لا أريد أن أحمل دم أحد. لا أريد أن أشارك في إسالة دماء أحد.

        ضرورة المقاطعة تكمن في كون أحد أهم أسباب قوة إسرائيل سياسيًا هو رؤوس الأموال الداعمة لها، و ما تمارسه من ضغط علي السياسيين في أمريكا عن طريق تمويل الحملات الانتخابية. إدراك رؤوس الاموال الداعمة لإسرائيل أنهم يخسرون من دعمها، سيجعلهم غالبًا يتراجعون ، خاصة إن شعروا بأن المقاطعة تمثل خسائر اقتصادية حقيقية لهم. و نحن نستطيع أن نحقق هذا التأثير؛ بسبب ضخامة الاستهلاك العربي و بالتالي عمق تأثير انخفاضه.

        مسار الحل السلمي أهم أركانه التظاهر السلمي و العصيان المدني، لكن ما ربما يزيد عليهم أهمية في الحالة الفلسطينية هو المقاطعة. في الحالة الفلسطينية بالذات، خيار التركيع الاقتصادي لإسرائيل و الداعمين لها بالمقاطعة أهم كثيرًا؛ لأن قوة إسرائيل السياسية و تأثيرها علي السياسية الأمريكية عماده اقتصادي بالأساس.
     
         أنا أرفض خيار المقاومة المسلحة في القضية الفلسطينية و كتبت أسبابي في مقال من قبلن لكن بغض النظر عن دعم أو رفض الخيار السلمي، كافة الراغبين و الفاعلين في المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني يجب عليهم دعم المقاطعة بل و الاشتراك فيها. حتي و إن رأي أحد أن خيار المقامة المسلحة هو الخيار الصواب، فهذا لا يعني أنه ينكر أن أحد أهم أساليب تركيع عدوك هو خنقه اقتصاديًا.

          أيًا كان موقفك من الطريقة الأكثر فاعلية لمقاومة إسرائيل، فعليك أن تقاطع. بل حتي إلم تكن القضية الفلسطينية ذات أولية لك، فعلي الأقل، لا تشارك/ي في قتل أحد بأموالك.  لا تدعم/ي جريمة إسرائيل.

           الفيلسوف الأمريكي ثورو دعي لعدم دفع الضرائب للحكوم الأمريكية أثناء الحرب الأهلية، و قال حينها أن واجب الفرد ليس مقاومة كل ظلم يقع في العالم، لكن واجبه ألا يدعمه. ثورو رأي أننا إن توقفنا عن دعم الظلم، هذا سيكفي ليسقط حتي إلم نقاومه.

           لا تحمل/ي دماء أحد
            قاطع/ي



        

الجمعة، 17 أبريل 2015

أغلبنا أقلية

(هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).

(ملحوظة:   
           Intersectionality (
نظرية باتريكا هيل كولنز و شرحها علي يد دكتور علم الاجتماع/ مايكل راين عن كون الأفراد يحتلون أماكن مختلفة في المنظومات الاجتماعية هي ما قاد تفكيري لكون  الأغلبية أقلية)  
      كثيرون قالوا لي أن أهرب و أترك هذا المجتمع الذي لا يقبل اختلافي عنه. لم يعرفوا حينها أنهم يجرحونني،  لم يخطر لهم أن كلامهم يمكن أن يعني لي أنني أطرد من هذا الوطن؛ لأنني مختلفة و لا يقبلني، و ألا مكان لأمثالي فيه. لم يدركوا أنهم يجرحونني بتجريدي من حقي أن أحيا كما أنا في وطني ككل مواطنيه.
       و الأعمق أنهم لم يعرفوا أن هذا المجتمع أغلبه أقليات علي كل شكل من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار تريد الهرب إلي مجتمع اّخر يقبلها. صعب أن نجد فردًا في هذا المجتمع لا ينتمي/تنتمي إلي أقلية أو مجموعة مضطهدة. صعب أن نجد النموذج الكامل لفرد من الأغلبية تمامًا؛ ذكرًا يتميز بلعب دور الرجل اجتماعيًا جيدًا، مصريًا (غير مزدوج الجنسية)، غنيًا، مسلمًا، من القاهرة، غيريًا، والداه لم يطلقا (لم يترب مع طرف واحد) و من جنسية و دين واحدين، متزوجًا من مسلمة، موالٍ للنظام، بشرته أقرب للبياض، ليس من أصول نوبية أو سيناوية، لا يعاني من إعاقة، تعلم تعليمًا عال المستوي، يتقن الإنجليزية، من خلفية اجتماعية مرموقة. هذا الفرد و من مثله (و هم الأقلية العددية) فقط هم من لا ينتمون إلي أقلية أو مجموعة مضطهدة أما غالبية الأفراد (عدديًا) في المجتمع يعانون من كونهم جزءًا من أقلية أو مجموعة مضطهدة أو أكثر. الشائع أكثر  هو وجود أفراد بعيدين عن النموذج الكامل. الشائع وجود غنية متعلمة تعليمًا جيدًا، من وسط اجتماعي راقٍ لكنها أنثي و مسيحية،  أو فقير و مثلي لكنه ذكر و لا يعاني عجزًا جسديًا و من القاهرة، أو نوبي و فقير لكنه مسلم و ذكر أو مسلمة و غنية و متعلمة تعليمًا جيدًا لكنها معاقة و أمها مطلقة و تريد الارتباط بمسيحي أو متوسط المستوي الاجتماعي متعلم و غير معاق، و مسلم لكنه إخواني و من أسيوط أو قاهرية غنية و غير عاجزة و متعلمة و والداها متزوجين و مسلمين و بيضاء و غيرية  لكنها أنثي و ملحدة  أو متعلمة و غنية و مسلمة و موالية للنظام و لا تعاني عجزًا و إسكندرانية لكنها امرأة في جسد ذكر (ترانس) و المجتمع يفرض عليها أن تكون رجلاً أو متعلمة و مسلبمة و غيرية و غير عاجزة و مسلمة و من مستوي اجتماعي مرتفع لكنها أنثي و ترتدي نقابًا.
          المجتمع أغلبية أفراده العددية أقليات لكنه  ينكر ذلك و يعاملهم كأنهم مجموعة صغيرة واحدة، و كأن أغلبية أفراده ليسوا بطريقة أو بأخري أقلية. المجتمع هو أصلاً مجموعة الأفراد الذين يشكلون بطريقة أو بأخري الأقليات و هؤلاء هم من يضطهدون بعضهم و يخلقون الاضطهاد و يشكلون مؤسساته. المسيحي الذي يقمع زوجته أو بناته و هو مضطهد من الأغلبية المسلمة. النوبي المسلم الفقير الذي يقصي المسيحي و لا يصادقه و يوافق علي منعه من ممارسة شعائره الدينية و هو مضطهد؛ لأنه نوبي و فقير. القاهرية الغنية المتعلمة ذات الوالدين المسلمين المصريين التي ترفض و تقصي المنتقبة و هي مرفوضة اجتماعيًا لكونها ملحدة. و القاهري المسلم الذي لا يعاني عجزًا لكنه يرفض أخاه المعاق و يراه بلا قيمة بل عبء و هو مثلي و مرفوض اجتماعيًا لكونه مثلي. و الترانس التي تؤيد بطش النظام باليسار و الإخوان؛ لأنها تختلف عنهم  و هي مرفوضة اجتماعيًا بل و يبطش هذا النظام بأمثالها لكونها ترانس، و المجتمع يفرض علي الذكر أو يكون رجلاً و الأنثي أن تكون امرأة.
           الأفراد هم خالقين اضطهاد بعضهم، و بخلقهم لاضطهاد بعضهم يخلقون نظامًا اضطهاديًا جماعيًا، و الأفراد وحدهم القادرين علي تغيير هذا المجتمع، هم وحدهم القادرين علي إنهاء اضطهاد بعضهم و كسر دائرة القمع.  كسر دائرة الاضطهاد و القمع يتطلب الإدراك أولاً أن أغلبنا عدديًا أقلية، و أننا جميعًا خالقين للاضطهاد كمنظومة باضطهادنا لبعضنا.
           الخيار الاّخر أن نهرب جميعًا من المجتمع الذي خلقنا اضطهاده بأنفسنا إلي مجتمع اّخر أكثر عدالة للجميع، يحمينا من الاضطهاد و القمع بأن يجبرنا ألا نضطهد أو نقمع أحدًا. هذه المجتمعات التي قد نفر إليها جميعًا بدور الضحية، سنلتقي فيها جميعًا؛ لأننا جميعًا ضحايا و مجرمين.
        
         

        

الجمعة، 3 أبريل 2015

كيف تصنع مواطنًا متنحًأ؟

(هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).

ملحوظة: عنوان المقال من اقتراح : أمنية فرج (محررة بالقسم العربي من مجلة الجامعة الأمريكية AUC Times)

كيف تصنع مواطنًا متنحًا؟
لماذا يموت ضمير الشعب؟
من قاتل/ة الإنسانية؟
عندما نبحث عن الفاعل/ة في العلوم الشرطية نبحث عن المستفيد/ة، و كثيرًا ما تكون الدولة الديكتاتورية هي المنتفعة الرئيسة في جريمة قتل الإنسانية، لذلك كثيرًا ما يتم توجيه أصابع الإتهام إليها، لكنها ليست وحدها المنتفعة، بل ربما هي ليست إلا أداة في يد الفاعل الرئيسي، المجتمع. المجتمع هو الذي يخلق الدولة، تركيبة الدولة ذاتها تنبع من التكوين الاجتماعي، لا توجد دولة ديكتاتورية لمجتمع تكوينه ديمقراطي. لا توجد دولة أبوية في مجتمع أسقطت فيه صورة الأب. لا توجد دولة فاشية في مجتمع متقبل للاختلاف. الدولة ما هي إلا انعكاس المجتمع، و أداته في تطبيق مبادئه، و عندما تتواجد جريمة المتهم الأول فيها الدولة، يجب العلم أن الدولة هي في أحسن الحالات هي المنفذ، لكن صاحب الإرادة الحقيقة في الفعل هو المجتمع.
و رغم ذلك، فعلاقة المجتمع بالدولة شديدة التعقيد، فكما يصنع المجتمع الدولة، تروض الدولة المجتمع، و عندما ينتشر شعور أو مبدأ في المجتمع فخلفه تتواجد مؤسسات للمجتمع و الدولة تغذيه، إلم تكن هي صانعته. فإن كان الفاعل الدولة أو المجتمع فأداة تنفيذ الفعل هي هذه المؤسسات. إن كان الفعل هو قتل الإنسانية، و المجرم الدولة أو المجتمع، فإن أداة تنفيذ الجريمة هي مؤسسات غرس أو اجتثاث الوعي، هذه المؤسسات هي سلاح الجريمة.
يمكن استخدام السلاح بطرق مختلفة لتنفيذ ذات الجريمة، و الطريقتان اللتان استخدمهما المجتمع و الدولة في قتل إنسانية المجتمع هما "تغييب الوعي" و "نشر الإيمان بمبدأ يستأهلوا".
واحدة من أشهر عبارات ماركس أن الدين أفيون الشعوب. ما قصده ماركس بهذه العبارة مباشر، أن الدين يستغل في تغييب الشعب، بجعله يفكر في الحياة الأخري، فلا يهتم بواقعه المأساوي و لا يثور قط. ماركس تحدث عن مجتمع سادت فيه قراءة للدين المسيحي تزيد الإهتمام بالأخرة و تتجاهل أهمية الدنيا، تواجد في مجتمع الدين فيه ربما يكون المؤسسة الأكثر أهمية في تزييف الوعي. العلماء الماركسيين عاشوا في حقبة تاريخية مختلفة لم يعد فيها الدين المؤسسة الوحيدة التي تملك سلطانًا علي الوعي. لذلك طوروا فكرة ماركس، فضموا للمؤسسات التي تملك القدرة علي تغييب الوعي "الإعلام"، و مؤسسات أخري مثل "الرياضة".
هذا ليس توجه العلماء الماركسيين وحدهم، بل كثير من علماء الإعلام و المثقفين. علم كامل للنظرية الإعلامية نشأ في النصف الثاني من القرن العشرين لدراسة الإعلام و الرأي العام، بعد ظهور دوره في خلق شعبية عالمية لهتلر علي يد وزارة البرباجندا التي رأسها جوبلز، حيث بلغت تلك الشعبية حدًا مرعبًا جعل للفاشية مؤيدين حتي داخل دول الحلفاء.  خرجت نظريات إعلامية كثيرة بعضها يبالغ لدرجة تصوير الإعلام بطلقة سحرية يمكنها تغيير وعي الشعب مباشرة و تمامًا.
كيف يتم تغييب الوعي و نشر الإيمان بفكرة "يستأهلوا":
1-الإعلام:
في مجزرة رواندا، لعب الإعلام دورًا محوريًا في غرس الكراهية. مذبحة رواندا حدثت للتيتسو الأقلية العرقية علي يد الأغلبية العرقية الهوتو.  ما بين نصف المليون و المليون  من التيتسو و الهوتو الذين رفضوا قتل التيتسو ماتوا خلال مائة يوم.  خلال هذه الفترة حرض  الإعلام علي قتل التيتسو و أشار إليهم بكلمة رمزية هي "الصراصير". هذه الواقعة كانت وراء سابقة قانونية بمحاكمة أفراد مؤسسة إعلامية أمام القضاء الجنائي الدولي.
الإعلام المصري يلعب دورًا مشابهًا حيث يرسم صورًا ذهنية عن الأقليات السياسية و العرقية و الدينية و الجنسية تجعل كل جريمة ترتكب ضدهم مقبولة بل مصفقًا لها.  هذا ليس جديدًا بل هناك كثير من الأقلام التي كتبت من قبل عن دور الإعلام في إذكاء الكراهية بين المسلمين و المسيحيين. الجديد هو تطور دور الإعلام ليصير مؤسسة منوطًا بها زرع الكراهية ضد كل ما هو مختلف بغض النظر عن نوع الاختلاف. الدولة تستغل ذلك لمصلحتها، والمجتمع كذلك يستغله ليبرر لنفسه الفتك بكل أقلية.
نماذج ذلك كثيرة منها تحول الأجندة الإعلامية لتغطية قضايا المثليين و الملحدين و مضطربي الهوية الجنسية خاصة قصص القبض عليهم، و تصويرهم كمجرمين مستحقين لكل بطش، و كل إمتهان لإنسانيتهم. حتي في تغطية قصص المثليين و الملحدين، يتغاضي الإعلام عن نقل القصة كاملة و ينقل منها فقط الجزء الخاص باعتقالهم، لا ينقل أي أخبار عن الانتهاكات التي يتعرضون لها بعد القبض عليهم و لا يحاول من حيث الحيادية نقل الصورة من جهتهم كما ينقلها من جهة الدولة و المجتمع.   و ربما أشهر تلك القصص واقعة مني العراقي الشهيرة، لكنها مجرد واحدة من عشرات. الإهتمام المفاجيء بقصص إلقاء القبض علي المثليين و مضطربي الهوية الجنسية و الملحدين ليس سببه مجرد إذكاء مشاعر الكراهية ضدهم، و دفع المجتمع لتقبل كل الانتهاكات التي يتعرضون لها حتي التعذيب و الاغتصاب، بل خلفه أيضًا قتل الوعي، و في بعض التحليلات الإعلامية، التغطية علي ملفات سياسية أخري.
نموذج أخر سياسي بالدرجة الأولي هو دور الإعلام في صياغة صورة الأقليات العرقية كأهل النوبة و سيناء، و دوره في صياغة صورة الأقليات السياسية كالإخوان، و اليسار  بل و حتي الأقليات المنظمة ذات الطبيعة الشبه سياسية سياسية مثل الألتراس. صياغة صورة الأقليات العرقية كخونة و عملاء يريدون تقسيم مصر (كأهل النوبة) أو كخونة  و متطرفين و إرهابيين (أهل سيناء) يجعل أي جريمة ترتكبها الدولة ضدهم مبررة، لا تهميشهم وحده و يبرر استراتيجية الدولة العنيفة التي أثبتت فشلها معهم. دور الإعلام في صياغة صورة الإخوان كإرهابيين و خونة و عملاء لا يحتاج إلي التدليل عليه، لكن دوره في صياغة صورة اليسار يحتاج إلي حديث أكثر تطويلاً. فمن ناحية رسمت صورة الخونة لكثير من النشطاء لكن في حالات استثنائية يتم الهجوم علي الدولة لطريقة تعاملها مع بعضهم كقضية شيماء الصباغ. ربما يرجع ذلك لرغبة بعض المؤسسات الإعلامية في إشعار الدولة بقوتها، و قدرتها علي شحذ الرأي العام ضدها وقتما تريد. و ربما بسبب كون ممتلكي رؤوس أموال المؤسسات الإعلامية أقرب شكلاً لفكر اليسار عنهم لفكر الإخوان. أما الألتراس كمنظمة ذات طبيعة شبه سياسية، فتم تشويه صورتهم ليبدوا مجرمين و بلطجية؛ لتبرير كل جريمة قد ترتكبها الدولة لإخراسهم خوفًا من قوتهم و قدرتهم علي تكديرها في الشارع بلعبة القط و الفأر.
2- لقمة العيش:
ماركس رأي أن الطبقة الدنيا هي الأكثر مقاومة للتغيير، و أن النظام يحتاجها لتأمينه. ما يمكن أخذه و تطبيقه علي واقعنا من نظرية ماركس هو أن فكرة الاستقرار و تأمين لقمة العيش هي أداة هامة لإلهاء المجتمع عن الشعور بالأقليات أو من يقاومون النظام، و ورقة كذلك لجعله يقتنع بأنهم "يستأهلوا".  تغييب المجتمع الدائم بالاحتياج للقمة العيش، و تخويفه من فقدانها يجعله متقبلاً لكل إجراء تتخذه الدولة لتأمين الاستقرار، خاصة و أن جزءًا كبيرًا من عمل هذه الطبقة هو نشاطات تعتمد عليه أساسًا كالسياحة.
3-  الدين:
الدين ليس بالضرورة مؤسسة لتأمين النظام أو تبرير الجرائم ضد الأقليات. الدين يمكن أن يلعب دورًا في الثورة أو لنصرة أقليات معينة، لكن الطريقة التي يتم بها توظيف الدين في مصر تذكي فكرة "يستأهلوا"، سواء من جانب الدولة أو المعارضة الإسلامية. فالدين يلعب دورًا في تبرير الفتك بالأقليات التي تعد خارجة عن أحكامه كالملحدين، و اللادينيين و المثليين و مضطربي الهوية الجنسية و حتي الإخوان (في القراءة الأزهرية الدينية السياسية).
4- التعليم:
دور النظام التعليمي في تغييب الوعي ليس غرس أفكار سياسية أو دينية محددة بفرضها في عبارات ملقنة فقط بل بطريقة التفكير التي يروض النشء عليها، التي تقبل كل ما يقال دون نقد، و لا تعرف التفكير المستقل. ما يغرس بنظام التعليم أن الحقيقة واحدة، و أن المختلف/ة عن الرأي الواحد علي خطأ. تلك الطريقة مرتبطة برفض الجدال ضد السلطة، و مرتبطة كذلك برفض الأقليات؛ لأنهم يمثلون المختلف عن الشكل الأوحد المقبول، عن "الإجابة النموذجية".

            الحل لأزمة الأقليات و موت الإنسانية لدي المجتمع يكمن في توجيه ذات المؤسسات لتنتصر لحق الأقليات و لتغرس قيم الإنسانية و الحرية. الحل في غرس فكرة النقد و تعدد الرأي في التعليم لا الرأي الأوحد. الحل باستغلال الإعلام لطرح قضايا الأقليات من زاوية الأقليات لا من زاوية الأغلبية وحدها. الدين مؤسسة أخيرة تتأثر بالتغيير الذي يحدث في مؤسسات المجتمع الأخري، و يتغير التفسير الشائع فيها بتغير تركيبة المجتمع.  و نقطة شديدة الأهمية هي ضرورة أن يجد معارضوا النظام مشروعًا اقتصاديًا بديلاً للنظام الحالي قادر علي حماية "لقمة العيش"؛ فالمجتمع لن يتقبل تهديده اقتصاديًا مهما بدي الثمن مبدئيًا. 

الأحد، 15 مارس 2015

كلاكيت ثاني مرة (عن المؤتمر الاقتصادي)

       (هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).

      في عصر أحمد نظيف شهدت مصر أعلي معدلات نموها الاقتصادي في الأرعين عامًا الأخيرة، حيث بلغت نسبة النمو7% و هي نسبة خيالية لأي دولة نامية، بل إن مصر حافظت علي نموها في ظروف الأزمة الاقتصادية العالمية، و بينما كانت اقتصادات العالم المتقدم تنهار، حافظ الاقتصاد المصري علي ثباته بل و حقق نسبة نمو ملحوظة. و مع ذلك جاءت الثورة، لماذا؟ قد تقدم تحليلات سياسية كثيرة (سواء تؤيد نظرية المؤامرة أو تدين النظام) لكن في كل الأحوال و بعض النظر عن السبب، ما كانت هذه الثورة لتجد زخمًا شعبيًا و من الطبقات الوسطي و الدنيا إلم يكن هناك سخط علي النظام الاقتصادي الذي تغيب فيه العدالة.
       مع ازدياد النمو الاقتصادي المصري ازداد حجم الفقر ليبتلع 40% من سكان مصر، و ازدادت نسبة الجريمة لتبلغ أرقامًا غريبة علي المجتمع المصري، مع ازدياد جرائم العنف و الجرائم الجنسية بالذات. و ذلك -من إحدي قراءات علم الاجتماع- يرجع لازدياد الفجوة الشاسعة بين الأغنياء فاحشي الثراء و الفقراء مدقعي الفقر. اقتصاد نظيف هو اقتصاد ال7% نموًا و 40% تحت خط الفقر.
         الأزمة الحقيقية في قراءة الحكومات التي تتبع منظومة أحمد نظيف (الخاضعة لرؤية صندوق النقد و البنك الدوليين) أنها تغفل الجانب الاجتماعي و تركز علي الجانب الرقمي، تولي اهتمامًا مبالغًا فيه بأرقام النمو الاقتصادي و زيادة الاستثمارات و لا يعنيها انعكاس ذلك علي حياة المواطنين و لا تحقيق الرفاهية إلا للأقلية الرأسمالية. هذا المنظومة تقدم الوسيلة علي الغاية، تؤثر الاقتصاد علي المجتمع.
          هذه المنظومات هي الخطر الحقيقي علي أمن المجتمع. إنها تبني علي أساس هش من الثروة المركزة في أيدي أقلية و المنظومة الأمنية التي تحمي هذه الأقلية. إنها قائمة علي ظلم. و القائم علي ظلم أرضيته أسفلها حمم تنتظر الهزة لتنفجر. هذه المنظومات تولد كل ما يهدد سلام المجتمع حتي و إن بنيت علي استقرار زائف. هذه المنظومات تزكي كل احتقان بين طوائف المجتمع التي يغيب بينها العدالة الاجتماعية مثل الأغنياء و الفقراء و مختلفي العقائد الدينية.
            كلاكيت ثاني مرة،
                                    نعيد استنساخ المنظومة
          عندما عرفت بأمر المؤتمر الاقتصادي، رأيت المشهد أمامي يتكرر. نحن لا نتعلم من الأخطاء. نعيد إنتاج ذات المنظومة.
           بعيدًا عن الحديث عن الغايات وراء المعونات الاقتصادية، أو انتقاد ظهور مصر بمنظر الدولة الشحاذة، فهناك بعد أكثر خطورة لا يبدو أن أحدًا إنتبه له. نحن نعيد ذات الخطأ. الاّن نحاول أن نعيد النمو الاقتصادي الذي حققه أحمد نظيف بذات المنهج. نحاول أن نعيد الاستثمارات التي تحقق دخلاً اقتصاديًا يصب في جيوب الأقلية الأكثر ثراءًا، و بدون ضمانات للعمال أو الطبقات الأكثر فقرًا. نحن ندخل مزيدًا من الدخل، و نضعه في أيدي الأكثر ثراءًا و لا نعادل ذلك بدخل يحصل عليه الأكثر فقرًا، مما يعني زيادة الفجوة بين الأثرياء و الفقراء. و هذه الفجوة في حد ذاتها أكثر خطورة من الفقر.  الفقير/ة سيجد/ستجد أزمة الفقر أقل وطئة إن كان المجتمع بأكمله فقيرًا لكن ما يضخم وطئة الفقر، هو شعور الفقير/ة بغياب العدالة و وجود طبقة تتمتع بامتيازات هو/هي محروم/ة منها. هذا الشعور هو منشأ كثيرمن الأزمات الاجتماعية (السابق ذكرها مثل الجريمة و الاحتقان الاجتماعي و الطائفي).
       هل معني ذلك أن جذب الاستثمارات أو المعونات خطأ؟ ليس بالضرورة، لكن المشكلة هي رؤية ذلك كحل بدون وجود منظومة علاج اجتماعي لأزمة غياب العدالة الاقتصادية. جذب الاستثمارات بدون رؤية لتوزيع اجتماعي عادل للنمو الاقتصادي هو زيادة للأزمة لا طريقة حل. مع الأخذ في الاعتبار أن كثير من الدول التي تنوي الاستثمار في مصر تأخذ في اعتبارها أنها ستتمكن من استغلال العمال و الدعم مما يعني أن ظروف وجودها هي ظروف استغلال لوضع اقتصادي و اجتماعي غير عادل.
         إن كنا نريد حلاً حقيقيًا علينا أن نبدأ في علاج الورم الحقيقي (غياب العدالة الاجتماعية)، لا أن نلجأ لمسكنات قد تزيد تفاقم الأزمة مثل زيادة النمو الاقتصادي. لا يعني ذلك بالضرورة أننا يجب أن نتنازل عن الحل الاقتصادي، لكن يجب أن نوازنه بحل اجتماعي حقيقي حتي لا نكرر ذات الأخطاء، و من يدري؟ فقد يكون الثمن الذي سيدفعه المجتمع بأكمله (لا النظام فقط) هذه المرة أثمن كثيرًا من ثورة، قد يكون ثمنًا نبكيه جميعًا دون جدوي.


الجمعة، 13 مارس 2015

أكثر ما يحتاجونه ( التأثير الحقيقي)

         (هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).

         نربي علي أفكار سلطوية تغوص عميقًا داخلنا. تغرس داخلنا أفكار أكثر تعقيدًا من مجرد إيمان بحاكم/ة سلطوي/ة، بالنظام السلطوي، بالنغوذ الأبوي، بالديكتاتورية في الأسرة، و المجتمع و النظام السياسي، و التغيير الفوقي. الأفكار تغوص عميقًا داخلنا حتي تجعلنا نؤمن بأفكار عنا، عن داخلنا و داخل غيرنا أقرب  للسلطوية. نؤمن أن التغيير الاّخر بمنهج سلطوي
    نؤمن أننا لنغير من حولنا علينا أن نغرس داخل عقولهم بالقوة أفكار (حتي و إن كانت ضد طبيعتهم). نؤمن أن التغيير يأتي بالقوة، بالفرض، بل حتي و إن اقتنعنا أنه يأتي بالإقناع، نؤمن أنه يجب أن يكون إقناعًا فوقيًا. الإقناع الفوقي نموذج له الكاتب/ة الذي/التي يكتب/تكتب أفكاره/ا في كتب و يصفق له/ا في مرحلة ما، فيقتنع الجمهور بأن كتاباته/ا قيمة و تصلح لإرساء منهج للمجتمع. نموذج اّخر هو مدرس/ة يدرس/تدرس منهجًا دراسيًا يتميز بقدرته علي تنمية المهارات اللغوية أو العلمية أو الفكرية للطلاب. و النموذج الأكثر شهرة هو الناشط/ة السياسي/ة الذي/التي يتحدي/تتحدي السلطة، و يسجن/تسجن لأرائه/ا، و يصير/تصير بذلك بطلاّ/ةَ.
     كل هذه النماذج لنا تحدث تغيرًا و تؤثر و نحترمها و نقدسها، و نتمني أن نحقق ما نراه نهضة بها. هذه النماذج هي التي نراها تؤثر و تغير في حياة المجتمعات و الشعوب. هكذا اّمنت أنا أيضًا، و هكذا حاولت و مازلت أحاول أن أحدث التغيير.
           لكن في هناك خطأ واحد في الفكرة القابعة خلف تلك النماذج. هناك خطيئة في فهمنا للبشر.

      مثل الجميع ظننت أنني أتأثر بالكاتب/ة العظيم/ة، بالمدرس/ة الذي/التي يؤثر/تؤثر فيَ منهجه/ا، علمه/ا. و ظننت بالتبعية أنني لأغير يجب أن أؤثر بكتابتي الفوقية الفلسفية المنطقية المقنعة، و أن أشارك في أنشطتي الثورية و أدفع الثمن غاليًا لإحداث التغيير السياسي. ظننت أن من غيروا أفكاري بكتابتهم و منهجهم المنطقي هم الذين أثروا في تكويني و أنني لأؤثر، يجب أن أفعل مثلهم.
           حينها لم أذق معني التغيير داخلنا. حينها لم أعرف أن الأفكار جزء مهم و عميق منا، لكن الأهم منها بكثير ما يجعلنا بشرًا، مشاعرنا. لم أعرف أن من يغير/تغير يؤثر/تؤثر في مشاعر من يتغير/تتغير، لا مجرد أفكاره/ا. لم أعلم أن الفكرة تتغير بشيء إنساني، بتجربة إنسانية عميقة. أن ما يحتاجه البشر هو المشاعر، هو الحب، بل حتي الأفعال التي يحتاجونها، يحتاجون أن تنبع من مشاعر أو ترتبط بمشاعر. أن أعمق ما يحتاجونه هو الإنصات، و القبول، و الحب غير المشروط، و إشعارهم بعدم الحكم عليهم.
            لم أعرف؛ لأنني لم أحيا تلك المشاعر بل لأنني لم أعي حياة تلك المشاعر.   
            ما دفعني لأغير نفسي، و علاقاتي، و مشاعري و أفكاري، بل حياتي بأكملها كان بشرًا قليليين إستمعوا إليَ، قبلوني، أحبوني حبًا غير مشروط، و لم يحاكموني، لم يحكموا عليَ.  أمسكوا بيدي، و أعانوني أن أواجه مجتمعًا و دولة بأكملهما، و الأصعب أن أواجه نفسي.  لم يكتبوا كتبًا عميقة غيرت أفكاري، جزء مما فعلوه لي كان جعلي أجادل و أنقد، و أري التناقد (خاصة أستاذي)، لكن ما فعلوه لي و قواني لأغير نفسي و بالتالي حياتي بأكملها كان إنصاتهم، حبهم، صبرهم عليّ، قبولهم لي، عدم محاكمتي. هذا ما أثر فيَ بصدق. هذا ما علمني المعني الحقيقي للتأثير، التأثير الذي يغوص عميقًا داخلنا، التأثير الإنساني.
               أعمق و ربما أهم ما يحتاجه من حولنا منا أن نحبهم، أن نستمع إليهم، أن نقبلهم كما هم، ألا نحاكمهم. كل تغيير حقيقي، هو تغيير إنساني.
               تعلمت أنني لأغير، بل لأؤثر، يجب أن أستمع، أحب، أقبل، ألا أحاكم.  تعلمت أن أعمق ما يحتاجه من حولي مني هو أبسط ما يحتاجونه.  أعمق ما يحتاجونه أن أبقي بقربهم ببساطة، أفتح نفسي عليهم، أحكي لهم، أجعلهم يؤثرون فيَ، أحبهم، أصدق معهم، و أفتح الباب لهم ليدخلوا بثقة. تعلمت أن الصدق، والبساطة،  الصراحة،  الرقة، الحساسية تلمس البشر، و تجعلهم يستجمعون شجاعتهم و ينفتحون، و يحكون. حينها يكون كل ما يحتاجونه ألا يوصد الباب أمامهم، أن ينصت إليهم، أن يحبوا و ألا يحاكموا. أحيانًا نملك إجابة، و أحيانًا يكفي مجرد أن نستمع.  تعلمت أن أغلب الوجع البشري متقارب، لكن الكبرياء و الرفض و الكراهية يحولون دون خروجه و حله.
             التغيير الحيقيقي العميق البشري يحدث عندما نملك شجاعة أن نقبل، ألا نحاكم، أن نحب، أن نصدق مع أنفسنا، و ألا نخاف أن نواجه ضعفها و حقيقتها. عندما نحاكم أو نرفض نكذب علي أنقسنا نأبي أن نري المشترك بيننا و بين من نرفض أو نحاكم. حينها نأبي أن نؤثر في غيرنا أو حتي (الأهم) في أنفسنا.

               التغيير الحقيقي في هذا المجتمع لن يأتي إلا عندما يتشجع أفراد أن يقبلوا و يحبوا، ألا يحاكموا و أن يصدقوا مع أنفسهم و من حولهم. الغيير الحقيقي سيأتي عندما نقبل أننا جميعًا بشرًا، و أن كل ما يؤثر فينا إنساني. 

السبت، 28 فبراير 2015

قصص بشر- رقم 5

(هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).


ترانس امرأة لذكر
(وافقت أن يكتب عنها بمرادفات الأنثي)
         عندما عرفتها دون أن أعلم ميلها الجنسي و الجندري، عرفتها معرفة سطحية. لم أعرفها كإنسانة بصدق. بقت إحدي معارفي و لكنها لم تتحول لصديقتي. لم أعرف عنها أجمل ما فيها إلا عندما عرفتها في مجتمع مختلفي الميول الجنسية و الجندرية.
          إنها من أشجع من قابلتهم، علمتنيالشجاعة بمعنٍ مختلف. ربما شجاعتي من النوع المواجه، المجنون، الذي يتحدي المجتمع، بل ربما هي انتقام أكثر منها شجاعة، لكن شجاعتها شيء مختلف. إنها تعرف الخوف، لكنها تحاربه و تقدم علي أفعال تحتاج شجاعة نادرة؛ لأجل أن تساعد أناسًا حتي لا تعرفهم يحتاجونها. إنها شجاعة، ليست بإنعدام الخوف و لكنبتحدي الخوف، و ليس لأجل النفس فقط، بل لأجل الاّخرين.
            قررت في فترة كانت ما تزال فيها تتلمس طريقها- بعد أن أقرت لنفسها أخيرًا (وهي في السابعة عشرة) بميلها الجنسي و الجندري- أن تساعد مختلفي الميول الجنسية و الجندرية و تؤسس صفحة يشعرون فيها بكونهم ليسوا وحدهم. فعلت ذلك و هي خائفة من المجتمع و الدولة، فعلت ذلك و هي ما تزال متخبطة. فعلت ذلك لأجلهم، لمجرد أنها قرأت علي جدار أحد الحمامات كتابة مثلية قالت أنها تشعر أنها وحيدة. أرادت أن تساعد تلك الفتاة و اّخرين بأن يشعروا أنهم مدعومين و أنهم مقبولين في مكان ما، -حتي و إن كان صفحة إلكترونية-. أرادت أن تساعد حتي و هي خائفة، و حتي و هي تحتاج من يقفون بجوارها.
            إنها لا تبحث عن الأضواء، و أرادت أن تبقي في الظلام، أرادت أن تدافع حتي من بعيد. هي أيضًا لا تتصرف كقائدة، لا تتصرف كأحد متسلط، أو مستبد حتي مع مجموعة تدعم مختلفي الميول الجنسية و الجندرية ( ظهرت نتيجة صفحتها). إنها أكثر تفاهمًا من أغلب من عرفتهم. و تتحمل كثيرًا جدًا حتي تكمل و تساعد من يحتاجون الدعم، من يشعرون بالضياع، من وصفتهم بأنهم يجذبون من ناحية من ميلهم الجنسي و من الناحية الأخري من المجتمع. تتحمل الضغط  العصبي، تتحمل خوفها و شعورها بالتهديد من الدولة في أي لحظة، و تتحمل مشاكل شخصية كثيرة بين من تساعدهم. تتحمل ذلك و أكثر وحدها. تتحمل ما لا يستطيع الكثيرون تحمل شيء بسيط منه.
               جرحها من أقرب أصدقائها عندما رفضوا دفاعها عن المثليين –وهم لا يعلمون أنها ترانس-، و قالوا لها ما معناه أن أمثالها يستحقون القتل، جعلها تبتعد، و تنغلق في مجتمع مختلفي الميول الجنسية و الجندرية. بدأت تقبل نفسها و تتغير، و تعيش ما تري أنها تريده، و تصبح أقرب في طريقتها للفتيان. في هذه الفترة التي كانت تكتشف فيها نفسها و ما تريده، ابتعدت عن كل من رأتهم سيرفضونها إن علموا، و انغلقت داخل مجتمعها الصغير. ليست وحدها، لكن كثيرين مثلها، يختارون الانغلاق داخل مجتمع صغير يقبلهم، جيتو يحميهم، بدلاً من مجتمع واسع يرفضهم و يحتقرهم و يجرحهم.
               لم تجرح فقط من أصدقائها، بل جرحت من فتاة أحبت. بعد أن أحبتها، و ارتبطا، وجدت الفتاة تبتعد و تقول لها أنها لن تستطيع أن تكمل في علاقة تعلم أنها لن تفضي إلي زواج و أبناء، و هذا ما تريده. رقم 5 أيضًا تريد زواجًا و أبناءًا، لكن المجتمع لن يسمح لها بذلك و لن يعترف لها بهذا الحق، حتي إذا أجرت عملية التحويل. عندما ابتعدت عنها الفتاة التي ارتبطت بها،  بدأت تقلق جديًا علي المستقبل، بدأت تواجه واقع مجتمع يرفض لها حلمها كإنسانة في ان ترتبط بمن تحب و تتزوج و يكون لديها أبناء.
                إنها ضمن أكثر من احترمتهم. احترمتها؛ لأنها تواجه خوفها. احترمتها؛ لأنها تريد أن تساعد –حتي من لا تعرفهم- و تشعرهم أنهم ليسوا وحدين. احترمتها؛ لأنها تريد أن تشعر غيرها بالدعم، و دعمتني كثيرًا من قبل، و فهمت كثيرًا من مشاعري.
                 إنها ليست مثالية. تيأس من الناس، و ربما تحكم عليهم أحيانًا بسرعة من الخارج.أحيانًا لا تحاول أن تعطي من أمامها فرصة ليتغير/تتغير ، لكنها –في النهاية- ليست مضطرة لاحتمال الألم لتغير أحدًا. إنها –و هذا مبرر جدًا- تخاف الألم، و أحيانًا أظنها تخاف أن تبدو ضعيفة.
                  بقي أن أذكر عنها أنها مرحة. إنها من أكثر من عرفت قدرة علي أن تحويل أكثر الأشياء إيلامًا إلي مصدر سخرية و ضحك. تتقن فن الكوميديا السوداء.

                  سأظل احترمها كإنسانة بكل ضعفها و قوتها. و سأظل احترم –أكثر من أي شيء- رغبتها، تعبها و تحديها لخوفها؛ لتشعر كل من يحتاج الدعم به.

السبت، 14 فبراير 2015

قصص بشر (4)

 (هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).

(4)
مسيحي متشكك- يساري
"أنا بأنزل الشارع من 2008 عمري ما إتمسكت، تسلميني؟ شايفاني واقف و اللي جنبي بيهتف : "الداخية مية مية" تقومي تعملي لي باي باي!"
"و الله لو إتمسكنا هأفضل مخاصمك و مش هأبصلك طول ما إحنا في البوكس!"
قال هاتين العبارتين يوم الوقفة النسائية ضد مقتل شيماء الصباغ. لم يضطر يومها أن يأتي؛ فالوقفة نسائية و لن يسمح له بالاشتراك فيها، لكن أصر أن يأتي و وقف في الرصيف المقابل مع المواطنين الشرفاء استعدادًا للتدخل في حالة حدوث اشتباكات. و عندما أشارت له "س.ق" من الرصيف المقابل بهبل، و هي لا تلحظ أنها تسلمه هكذا، لم يحاول أن يهرب و يتركها، و لكنه بقي مكانه و مثل أنها لا تشير إليه. العبارة الأخري قالها ل"ك" التي أصرت أن تعود لمكان الوقفة بعد أن انفضت؛ لتقف وحدها تهتف ! أصر أن يثنيها عن العودة بنقاش هاديء لكنه لم يتخلَ عنها، و لم يتركها تذهب وحدها. عادت "ك" تصر أن تمر بمكان الوقفة –حتي دون أن تتظاهر- و بمجرد مرورهم بالمكان إتبعهم أحد الأمنجية حتي جلسوا علي مقهي فجلس قربهم. 
عرفت فيما بعد أن مواقفه تلك مع "س.ق" و "ك" ليست غريبة عنه. هو لا يترك أحدًا خلفه مهما حدث، و ربما هذه هي أنبل صفاته. في 25 يناير 2014 تم ضرب محيط نقابة الصحفيين و هو واقف في اّخر المسيرة، وجد حينها إحدي الرفيقات تجري نحو المسيرة و خلفها البلطجية. كان بإمكانه حينها أن يجري، لكنه فضل ألا يتركها و عاد ليأخذها !
الغريب أنه ليس شجاعًا أو نبيلاً (سأستخدم هذا اللفظ مكان لفظ العامية "جدع") فقط، لكنه كذلك لا يشعر من معه أنهم أضعف أو أقل منه، و لا يفرض رأيه عليهم و يحاول أن يريحهم. أحيانًا تكون طلباتهم عاطفية غير واقعية و لا عقلانية و تسبب له تعبًا إضافيًا، لكنه يوافقهم عليها بعد أن يعرض عليهم الرأي الأقرب للعقل و حتي و إن كان سيتعبه أكثر. أحيانًا أشعر أنه –يتماسك- مهما جرح من داخله حتي لا ينهار أمامهم. دائمًا أشعر أنه يشعر بالمسؤولية عن من حوله. 
جزء كبير من أيام دراسته الجامعية أمضاها في تنظيم المظاهرات و المعارض حتي صار ضمن قليلين في الجامعة معروفين بالاسم من الأمن، و حتي عندما تخرج لم ينقطع عن العمل الطلابي داخل الجامعة. و أمضي جزءًا محترمًا من وقته داخل المشرحة أو الأقسام لأجل القتلي و المعتقلين. 
يحاول أن يتعامل مع كل شخصية بالطريقة التي يراها مناسبة للتعامل معها –و إن كنت أشك في قدرته علي فهم مختلف الشخصيات-. أحيانًا ينتابني الشعور أنه يشعر برفضه من المجتمع، و يحاول أن يتأقلم معه و يصير أقرب إليه. هو لم يختر طريق الانغلاق داخل الجيتو الخاص به (الخيار الشائع اجتماعيًا)، هو اختار أن يختلط بالمجتمع بشتي اختلافاته، و هو خيار شجاع نادر. لكنني أظن أنه كذلك اختار الاختلاط بذلك المجتمع بالشكل الذي يجعله مقبولاً أكثر منه، رغم أنه أصلاً يفترض أن يكون جزءًا من ذلك المجتمع. إنه مجتمع يفرض علي أفراده أن يمثلوا القرب من الأغلبية لينالوا رضاه.
يمكن للكثيرين أن يوجهوا إليه الإتهام بالخيانة لكونه معارض و يساري. يمكن للكثير من المسلمين أن يدعونه كافرًا؛ لأنه مسيحي، و يمكن للكثير من المسيحيين أن يوجهوا ذات الإتهام إليه؛ لأنه متشكك. لا يهم من يحاكمونه، لا يهم ما يظنون. ليتهم لا يفرضون رأيهم علي أحد، ليتهم يريحون من حولهم، ليتهم لا يتركون أحدًا وراءهم، مثلما يفعل هو.

الثلاثاء، 10 فبراير 2015

شيء من يومي أمس

 ( هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة.)


انا كويس يا جماعه شكرا للاهتمام
نركز مع الناس الماتت و ال بيزيد عددهم ل ٢٨ لحد دلوقتی 
انا قدام مستشفی القاهرة الجديدو الجثث طلعت علي مشرحة زينهم انا متجة علی هناك
   
٢خرجوا حتی الان #‏مشرحة_زينهم
            قررت أن أحصل علي رقم "ب" من إحدي الصديقات المشتركات بيننا "أ" لأطمئن عليه، و أعزيه، و لكنها عندما لم ترد، إتصلت ب"م" صديقتي بالمدرسة التي كان يفترض أن تخرج معي أمس.
            "ما علش يا يسرا، واحد زميلنا في المدرسة مات إمبارح في الماتش."
        لم استطع تذكر وجه الزميل، أحرجت أن أتصل ب"م" ثانية و أخبرها أنني لا أتذكره، فاتصلت ب"و"، و هو زملكاوي و رفيق ثوري.
                " مات لكَ حد إمبارح؟"
               "خايف أبص علي الأسماء."
         سألته أن يرسل لي صورة الزميل و معلومات عنه، لكنه أخبرني أن أتصل برفيق اّخر ليساعدني.
           "البقاء لله، عشان لما تعرف إن حد مات لك أكون عزيتك."
         أجريت عدة إتصالات و جمعت معلومات عن مجزرة الدفاع الجوي، و عن إنعدام الإحساس و الإنسانية لدي الناس؛ حيث استأنفوا المباراة و كأن ذبابًا قتل لا بشر. إتصلت ب "أ" و بكيت و أنا أتحدث بصوت مرتفع وسط حوش الجامعة، و خلفي فتاتان تتحدثان و تضحكان. وجدت "ر" تتجه نحوي، احتضنتني.
          "الماتش كمل،و الناس إتفرجت و احتفلت بالأجوان، و لا كأن دبان مات جنبهم... بيقولوا ما دفعوش تذاكر!"
          أغلقت الخط مع "أ" و جاءت إليَ حيث أقف في الجامعة. أخبرتني أن صديقتنا "س .ق" كانت مع "ب" البارحة في المشرحة حتي الصباح و لم تنم و منهارة تمامًا، و أنها تريد أن تشتري "زانكس" لها، و أن "ي" كان بالمباراة أمس و رأي الموتي بجواره. أخبرتني أن هناك عزاء في الجامعة الألمانية للطلاب الذين ماتوا منها. أردت أن أعزي "ب"؛ لأنني أعرف أنه خريج الجامعة الألمانية، لكنني أخبرتها أن لدي عزاء لأحد زملائي بالمدرسة، إن استطعت أن أحضر الاثنين سأحضرهما، إن لم استطع فسأختار عزاء زميلي.  و ظللت أصرخ أنني الاّن عليَ الاختيار بين أي العزائين أحضر. كنت متعجة أنني في موقف الاختيار بين العزاءات، و أنني بدأت يومي بدلاً من "صباح الخير" ب "مات لك حد إمبارح؟" استغربت جدًا هذه العيشة التي فرضت علينا، التي يصير الموت و ما حوله فيها هو عيشتنا اليومية و ضمن جدول الأعمال اليومية الذي يجب أن ينظم.
           إتصلت بأمي لأخبرها بأنني سأحضر عزائين، فصاحت بي أنني لن أذهب لأيهما، و رددت العبارة الشهيرة: "إيه اللي وداهم هناك؟"، قلت لها أنني لن أحتملها هي أيضًا، فكفاني ما أنا فيه. و أغلقت الخط و قررت الذهاب لهما بغض النظر عن رأيها، لكن "أ" أخذت مني الهاتف و هدأت أمي و طمأنتها، و جعلت أمي توافق علي ذهابي.
           بعد أن هدأت، ذهبت لبعض صديقاتي و ضحكت قليلاً ثم عدت ل"أ" و "ر" و جلست معهما قليلاً ثم ذهبت لفصل "الفلسفة القديمة" قرأت قبل بداية الفصل واجب القراءة لفصل "الفلسفة الحديثة" ثم بدأ الفصل، فدرست أرسطو و مفهوم السعادة لديه و وجهت بعض الانتقادات له في المناقشة. ثم ذهبت لفصل "الفلسفة و الفن" و حضرت محاضرة و مناقشة عن المذهب الحديث و ما بعد الحديث في الفن، كل ذلك و كأن شيئًا لم يحدث.
            خرجت من المحاضرة إتصلت ب"س.ق" و وجدتها في حالة انهيار و صدمة من تجربة المشرحة.
            "هو إحنا ليه رخاص أوي كده؟"
             "كان بينادوا علي الأسماء كأنهم بينادوا علي ورقة حضور."
               بعد قليل وجدت "ي" يقترب من بعيد، فذهبت له "س.ق" و احتضنته. احتضنتهما.
               "طب إحنا ناس مش محترمة، لكن الستات و الأطفال اللي معانا، دول كمان مش محترمين؟"
                "إحنا وقفنا الباص و اللعيبة و وريناهم صور الناس. عملنا كل حاجة ممكن تتعمل، وقفنا الشارع. دول ناس جايين يشجعوكوا."
                  إتصلت ب "ب" و عزيته، و سألته عن ميعاد عزاء الجامعة الألمانية فأخبرني أنه لا يعرف، و عندما يعرف سيخبرنا. "س.ق" كانت منهارة تمامًا و صممت رغم ذلك أن تذهب ل"ب" و ترافقه إلي القسم، لتشارك في ملف المعتقلين علي خلفية مجزرة الدفاع الجوي. حاولت أن أثنيها عن ذلك؛ لأنني خفت أن تنهار مجددًا، و ألا تحتمل تجربة القسم بعد تجربة المشرحة، لكنني طبعًا لم أنجح.
                  تركتها بعد أن إتفقنا أن نذهب سويًا للعزاء و ذهبت لإحدي صديقاتي لأحدثها في موضوع هام. و إتجهت إلي الحافلة. قبل أن أركبها إتصلت ب"م" و أخبرتني بمكان العزاء فعرفت أنه نفسه مكان عزاء طالب الجامعة الألمانية، سألتها إن كان زميلنا درس بعد مدرستنا بالجامعة الألمانية فأكدت لي ذلك. إتصلت ب"أ" و أخبرتها بالأمر.
               "الحمد لله إنه طلع واحد مش اتنين... إيه اللي بأقوله ده؟ أنا بقيت بأقول الحمد لله إن اللي مات واحد مش اتنين!"
               عدت إلي المنزل، تناولت غدائي و غيرت ملابسي و إتصلت ب"س.ق" و إتفقنا علي نقطة لقاء و غيرناها عدة مرات بسبب ازدحام الطرق لأجل زيارة بوتين. و بعد مجهود إلتقينا قرب الأوبرا (لكن لم يسمح لي الضابط أن أسير علي رصيف الأوبرا، فإجتزت الشارع و وقفت علي الرصيف الذي يقسم الطريق لذاهب و عائد).   
               تأخرنا قليلاًُ علي العزاء. عندما وصلنا، قابلت "م" و حكيت لها ما مرت به "س.ق"، و تحدثنا قليلاً، و أنا واقفة مع "س.ق" و "ك" في أحد صفين طويلين ننتظر أن نعزي والدته. وصلت "س.ق" إلي والدته قبلي، و وجدتها تقبل والدته و تحتضنها و تنحني لتقبل يديها و لم تتركها بسرعة. عندما وصلت أنا إلي والدته أخبرتها أنني كنت في مدرسته، و أن الجميع يمدحونه.
            "بيقولوا كان راجل مش كده؟"
             جلست بجوار "ك":
            "سمعتي أمه قالت لي إيه؟... بأقولها : "هنجيب لكِ حقه"، بتقول لي: "لأ، ما تحرقيش قلب أم." "
            كلمات "ك" اّلمتني بقسوة من داخلي، جعلتني أعود للانهيار و أنا أردد داخلي ثم بصوت مسموع: "القهر وحش قوي." ما دار داخلي أن والدته تدرك أن دماءنا تسيل دون جدوي، موت و ألم دون طائل. القهر أننا نموت و تتعذب أمهاتنا و لا يغير ذلك شيئًا.  تذكرت أمي و كيف أتعذب داخلي؛ لأنني أعلم أن قتالي سيقتلها، أنها ستموت بسببي إن حدث لي شيء. شعرت بالقهر. نري القهر و القتل أمامنا و لا نستطيع حتي أن نقاوم. ثمن مقاومتنا مزيد من الدماء، مزيد من عذاب الأمهات (حتي كلمة عذاب عاجزة عن التعبير) و لا ثمن للدماء.
          شعرت بطاقة غضب عارمة داخلي. شعرت أنني أريد أن أضرب أي شيء، سيطرت علي نفسي حتي لا أوجه ضربة لشجرة أو إلي خشب الصوان. "ب" حاول تهدئتي و قال لي أن نضرب بعضنا بعد العزاء لا حينها.
           "أنا فضلت أضرب في الفنون القتالية عشر سنوات، لحد ما رفضت العنف. لكن دلوقتي عايزة أضرب... للأسف لا العنف و لا السلمية و لا أي حاجة بتجيب نتيجة."
             "س.ق" ظلت جالسة بجوار والدته ترفض أن تقوم رغم إلحاحنا حتي النهاية - رغم أنها لا تعرفها و لا تعرف ابنها-. تمكنا من تعزية أخيه. جلسنا معًا خارج العزاء قليلاً، فأخبرني "ب" أن ماهينور المصري أخذت حكمًا بالسجن خمس سنوات، و أجهز عليَ بخبر "ضرب" عزاء في المعادي. هذه المرة لم استطع أن أتحمل فلطمت خدي.
              قابلت "س.ق" صديقة لها كانت زميلة القتيل في الجامعة و أصرت أن توصلها معنا في السيارة. ركبنا سبعة في سيارة واحدة و بعد أن وصلت المنزل، قرأت واجب قراءة لمادة "الفلسفة القديمة" عن "السياسة" لأرسطو و شاهدت حلقة رسومًا متحركة!
              لقد حذفت كثيرًا من أحداث اليوم لأسباب تتعلق بخصوصيتي و خصوصية أفراد اّخرين و الأمن و لأسبابٍ أخري.
              هذا اليوم علمني الكثير عن نفسي و من و ما حولي، كثير عن الإنسانية و اللا إنسانية.