الجمعة، 16 ديسمبر 2016

سجن السلوفانة -منشور ب"نسوية" مجلة أسرة هي لدعم حقوق المرأة في الجامعة الأمريكية

(هذا المقال بقملي لا بقلم الطفلة).

سجن السوفانة
   "بلغتِ يا يسرا!"
    قالتها أمي مصدومة، عندما ناديتها من الحمام لأخبرها أنني بلغت. حسبت الأمر مداعاة فخر ودليلاً على أنني صرت كبيرة. كانت طريقة تفكير طفلة في التاسعة تريد دائمًا أن تفخر بأنها تكبر.
    لم أعرف حينها أن لحظتها سيبدأ جرح طويل مؤلم، سيتضخم مع السنوات، ولن يشفي إلا بمواجهة، وحرب طويلة داخلي.

   بدأت جدتي تشرح لي معني "غشاء البكارة"، والعذرية. كنت طفلة صغيرة، لا تفهم كثيرًا، لكنني فهمت أنه شيء داخلي يجب أن أحافظ عليه بأي ثمن. لم أكن أبالي بتهديدات أمي ألا أتزوج إن فقدته، لكنني خفت عليه؛ لأنني ربما حسبته يحدد قيمتي. في البداية أصبت بوسواس للحفاظ عليه؛ خفت من الدراجة، من الشطافة، من المياه، حتى من الهواء عليه!  
لم أكن بطابعي طفلة جبانة، لكنه علمني الخوف، الخوف العميق الذي نعيش به، ويشكل أفكارنا العميقة غصبًا.
   في وقت ما، لم أرد أن أتزوج؛ لأنني رفضت أن أمنحه لأحد. ذلك كان الوقت الذي صدقت فيه بقيمته، و تحديده لقيمتي.
   مضت سنوات وأنا أخاف حتى جاءت الثورة.
  عندما نثور، نريد التدمير، يحطم غيظنا ووجعنا خوفنا، وهذا بالضبط ما مررت به. داخلي تنامي شعور بالإهانة، وبالجرح من كوني جسدًا يريد رجل أن يكون أول من جرب مذاقه. داخلي تنامت قسوة الجرح من كلام أمي عن قيمة العذرية، وعن قراءتي عن "الدخلة البلدي" والجنون ب "فض غشاء البكارة"، و "عمليات الترقيع". كل شيء حولي كان يذكرني، و يؤكد لي كم يحدد ذلك الغشاء التافه (الذي يشبه السلوفانة للحلوى) قيمتي.
        شعرت أن كل القيود الموضوعة على المرأة حجتها هذا الغشاء. لماذا المرأة التي لم تتزوج يضيق عليها أكثر من المتزوجة؟ لماذا يخنق على المرأة في العودة مبكرًا، وارتداء ملابس محتشمة، ولا يخنق على الرجل؟ لماذا يرفض المجتمع الاختلاط في "المرحلة الخطرة" بين الذكور والإناث؟ لماذا تلام المرأة على علاقاتها، ويفخر بها الرجل؟
أفكار المجتمع مثل "العذرية" و "غشاء البكارة" مجرد طريقة يتحكم بها المجتمع فينا، ويفرض بها أفكارًا غير علمية ولا منطقية علينا (غشاء البكارة ليس طبيًا قرينة على العلاقة الجنسية أو عدمها). إنها أفكار يضمن بها أن نفضل خاضعين لما يريد أن يفرضه علينا، ونخاف أن نتمرد عليه. إنها أفكار تحمي بقاء النظم القمعية، وتحمي غياب العدالة، إنها أفكار نبقي بها التمييز بين البشر، وقمع الأضعف (في هذه الحالة؛ المرأة).
المجتمع يضخم من غشاء البكارة يجعله شبحًا يرعب به كل امرأة ليفرض عليها قوانينه. المجتمع يحول العذرية لمعيار يحاكم به المرأة، و "السلوفانة" لدليله في المحاكمة. يزرع داخل المرأة منذ صغرها الخوف علي "السلوفانة" يجعلها ترتعد من فكرة خسارة دليل براءتها أمام محكمته.  هذه "السلوفانة" لا توفر له الدليل، و طريقة تخويف المرأة، و حسب بل و حجة قمعها.
خوف المرأة علي "السلوفانة" يجعلها مستعدة لقبول تحكم الرجل بحجة حماية دليل "براءتها". الأب أو الأخ بإمكانه أن يمنع ابنته من الخروج ليلاً أو السفر أو ارتداء ملابس معينة أو الاقتراب من أحد الذكور بحجة حمايتها من الاعتداء أو حفظها من الفاحشة. هذه الحجة لا تكفي لإقناع المجتمع فحسب بل أحيانًا حتي المرأة ذاتها. "الاعتداء" و "الفاحشة" في النهاية ما هما إلا كلمتان تستتر خلفهما "السلوفانة". لهذا السبب هذه الحماية تقتصر علي المرأة دون الرجل، و تزيد علي غير المتزوجة عن المتزوجة.  

كل هذا القمع حجته الحفاظ على "السلوفانة"، ليتأكد الرجل الذي يشتريني أنه أول من ذاقني، ليتأكد أنه أول من لعق الحلوى.
       شعوري بالإهانة جعلني أثور، جعلني أود تحطيم كل ما يقدسونه لهذه الدرجة. أردت ألا أمنح "الحلوى" لأي رجل. لم أرد أن يشعر رجل بزهو أنه أول من فتح السلوفانة، أردت أن أمزقها بيدي. تمنيت لسنوات أن أقطع غشاء البكارة بنفسي، لكنني كنت أقول لنفسي أنني سأكون قد هزمت من المجتمع. سيكون المجتمع قد أجبرني أن أؤذي نفسي وأجرحها؛ لأجل الانتقام منه.
      سنوات وأحاول أن أتخطي سجن وجع "غشاء البكارة" لي. سنوات و أحاول أن أتناسي أفكار المجتمع، وأتحداها كما يحلو لي، لكن داخلي الوجع مستمر حتى جاء ما أعاد إيقاظ جرحي الدفين.
الدولة إنعكاس للمجتمع، ليست بعيدة أو مفروضة عليه كما يدعي البعض، الدولة تنفذ و تستغل ما يؤمن به المجتمع، إنها تستغل قمعه لكل أقلية (و بالتأكيد المرأة). لأن الدولة تعرف أن المجتمع يقدس و يأله "السلوفانة" فإنها تدهس المرأة المعارضة بسلاح "العذرية"؛ لأنها تعرف أن ذلك ما سيكسرها.  أسوأ أن يقال عن امرأة أنها بدون "سلوفانة" "شرموطة" علي أن يقال عنها أنها "خائنة".
      "كشوف العذرية"،
       رعبي الأكبر،
       كناشطة سياسية، توقعت أن أعتقل وأواجه الاغتصاب، وكشوف العذرية، لكن كشوف العذرية أرعبتني أكثر من الاغتصاب.  أرعبتني فكرة أن يعلم أحد أدق ما أحميه بروحي. في هذه اللحظة، داخلي فضلت الموت على أن يعلم أحد إن كان رجل قد ذاقني أم لا.  قدسية ملكيتي لجسدي، وحقي عليه، كانا أهم عندي من حياتي. فضلت الموت على أن أعطي المجتمع الحق أن يعرف شيئًا عن جسدي. أكبر ألم كان أن يقهرني المجتمع، ويأخذ مني حقي وحدي أن أمتلك جسدي، وأن أعطيه لمن أشاء.
      لم أخبر أحدًا إجابة سؤال إن كنت عذراء أم لا. هذا السؤال بالنسبة إليَ كان أقيم من حياتي. و أكثر من رفضت أن يعلموا إجابته، هم من اهتموا أن يعرفوها؛ لأنهم أعطوها قيمة.  
      مرة تشاجرت مع أمي، ودخل في شجارنا كلام عن العذرية بطريقة ما، وقالت لي أن كل ما يريده أي رجل أن يأخذ جسدي. وسط وجعي، وجرحي، جذبت سكينا من المطبخ، وكدت أغرسه في عائني؛ لأدمره لولا أن أسرعت إليَ، وأطارت السكين من يدي.
     يومها صدمت من نفسي، وعلمت أن الألم العميق الذي غرسه المجتمع داخلي جعلني مستعدة أن أدمر نفسي. وكنت حينها أقرر أن أحرر نفسي من هذا الجرح بأي ثمن.
أحببت أستاذًا بعمق، وكان أول رجل أراه يحترمني كإنسانة، ولا يراني جسدًا.  طلبت منه أن أقابله، ليساعدني في أمر مهم بالنسبة إليَ. وحكيت له كل ما مررت به، وكم أكره ازدواج المجتمع، وكيف يسجنني في "السلوفانة". وقلت له أنني سأقول له إجابة السؤال الذي لم أقله لأحد قبله "إن كنت عذراء أم لا". لم تهمه الإجابة، لكنها أهمتني أنا. أردت أن أكسر داخلي شعوري بقدسية "السلوفانة"، كنت أريد أن أكسر ذلك لأتحرر بصدق منها.
المجتمع يحطمنا من داخلنا يجعلنا عاجزين عن الحرية. الحرية لا تعني تحدي المجتمع؛ بل تعني ألا يكون المجتمع في بالنا أصلاً. الحرية تعني الفعل لا رد الفعل. المرأة تجبر حتي عندما تقاوم أن تظل سجينة "السلوفانة"، أن تظل تقاتل ضدها أو تدمرها أو تدمر نفسها لتقاومها حتي. المرأة تظل مجبرة أن تدافع سواءًا عنها أو ضدها. لا تملك أن تتناساها. يصعب أن يتناسي العبد السيد مهما أدعي الحرية.      
    أخبرته، وبعدها خطوة خطوة، وجدتني أتحرر. أخذت بعدها فترة حتى صار سجن "السلوفانة" جزءًا من الماضي. لم يعد يهمني "كشف العذرية"؛ لأنه أصلاً ليس دليلاً أو حتى قرينة على العذرية. لم أعد داخلي أضع أهمية لفكرة العذرية، وتحدي أفكار المجتمع عنها. صرت أراها مثل فكرة أول مرة يذوق أحد الأيس كريم. لم يعد الجنس فكرة مهمة أو مهينة بالنسبة إليَ كما كانت.
   اّمنت من داخلي أكثر من أي وقت مضي أن "السلوفانة" ليست مهمة، لا تدميرها، ولا الحفاظ عليها. اّمنت من داخلي أن المجتمع غير مهم، وأفكاره لا تعنيني، وحتى عندما أقاتلها لا يتملكني القتال.
    صرت أؤمن أن جسدي ملكي بصدق.

جسدي ملكي هذه هي كلمة السر للحرية.  طالما بقت المرأة تؤمن أن جسدها ملكًا للمجتمع أو لأي أحد سواها، ستظل عبدة "السلوفانة" مهما قاومت. إيمانها أنجسدها ملكها هي العقيدة الحقيقة التي تحميها داخلها من كثير من قمع "السلوفانة". جسدي ملكي تعني ألا أحد يملك الحق علي أن يحاسبني أو يعلم أو حتي يسأل عن أي شيء يخصه. جسدي ملكي تعني بطلان المحاكمة قبل الحكم، بل تعني عدم اختصاص المحكمة بل تعني بطلان القانون. المجتمع لا يملك حقًا في جسد المرأة ليملك حقًا في وضع قانون يخصه، و لا في أي محاكمةاعتمادًا علي هذا القانون الباطل. المجتمع يغتصب حق المرأة، حق مشرويته في "جسدي ملكي".

لماذا نحيا؟-منشور بمجلة الجامعة الأمريكية AUC TIMES عدد ديسمبر 2016

(هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).
     
        قبل أن نستطيع سؤال أنفسنا: "لماذا نحن هنا؟"، نجد المجتمع يلقي أمامنا الإجابات التي تعجبه عن واجبات، وإنجازات يجب أن نصل إليها في حياتنا ليكون لها معني، وليكون لنا قيمة. قبل أن نفكر أو نشعر نجد أمامنا فروض جاهزة، وصورًا نقارن أنفسنا وحياتنا بها، ونخضع، ونخضع أنفسنا لها، ونحاكم أنفسنا بها. المجتمع يقول لنا دائمًا أن قيمتنا في الإنجازات التي نحققها، وأن استحقاقنا للحياة يكمن في مقدار ما نصل إليه من الصورة التي يرسمها للنجاح. عندما نعجز عن الإنجاز، ونفشل في الوصول إلى هذه الصورة أو حتى جزء منها، نحاكم أنفسنا، نقارنها بمن وصلوا، نكرهها، ننكر عليها قيمتها، نحكم على حياتنا بغياب المعني، وأحيانًا نقرر أن نسلب أنفسنا حق الحياة.
          نموذج على ما أعنيه هو الفرد الذي يقرر مجتمعه أن النجاح في التفوق الدراسي، والرياضي، ولاحقًا في رئاسة شركة متعددة الجنسيات، والزواج بامرأة من مستوي اجتماعي محدد، واقتناء سيارة ومنزل غاليين، وتعليم الأبناء في مدارس دولية. هذا الفرد إن فشل في هذه الجوانب، سيحاكم نفسه، ويقارنها بمن وصوا، وسيكرهها، وينكر عليها قيمتها؛ لأنها تدنو صورة النجاح، وسيحكم أن حياته بلا معني، وقد يقرر أن ينهيها؛ لأنها لا تستحق. هذا النموذج ليس حكرًا على مجتمع ذا فكر معين. هذا النموذج مجرد مثال علي ما تفعله شتي المجتمعات بشتى اختلافاتها، ومعاييرها للنجاح في الأفراد. إنها تجعل قيمة الفرد في إنجازاته -بغض النظر عما تعرفه كإنجازات-، وتجعل معني حياته فيما تزنه بميزان أفكارها عن النجاح من إنجازات.
لسنوات طويلة كنت خاضعة لتلك المنظومة، ولا أظنني أستطيع القول بثقة وفخر أنني تحررت مما غرس داخلي عميقًا جدًا من قهرها. لسنوات طويلة، هرست نفسي –وما أزال-لأحقق أكبر قدر من الإنجازات بمعايير المجتمع. حاولت الحصول علي أكبر عدد من الجوائز الأدبية، والعديد من الشهادات الدراسية في وقت واحد، والتفوق فيها جميعًا بدراجات لا يستطيع إلا القليل جدًا المنافسة معها، علاوة علي نجاح مبهر في شبكة علاقاتي الاجتماعية. كنت وما زلت أعاني من إدمان العمل الذي شجعني عليه المجتمع على حساب تدمير نفسي لأرضي معاييره عن النجاح. وفي أوقات معينة كانت رغبتي في النجاح مرتبطة بمحاولتي لمواراة "فشلي" بمعايير المجتمع لأنني ضمن أقلياته التي ينظر إليها باحتقار. وكنت أسقط في اكتئاب قاسٍ عندما أفشل في أي شيء حتى بمقدار صغير. لم أدرك إلا متأخرًا جدًا أنني داخلي غرس المجتمع فكرة أن قيمتي كإنسانة تكمن في إنجازاتي، وأن معني حياتي يوزن بهذه الإنجازات.
              كنت أسقط في أزمة وجودية كلما خف ضغط العمل على أو كلما وجدت وقتي فارغًا؛ لأنني كنت أشعر أنني لا أنجز، وبذلك لا قيمة لي، وحياتي بلا معني. وقابلت بشرًاينظرون لأنفسهم باحتقار، وكراهية، ويرفضون فكرة استحقاقها للحياة؛ لأنهميحكمون على أنفسهم بأنهم فشلة في علاقاتهم الاجتماعية أو العاطفية أو في العمل أو في دراستهم أو في كل ذلك معًا. في وقت ما بدأت أقترب من فكر مسيحي يقول إن قيمة الإنسان مستقلة عن أعماله، وأن قيمته في ذاته. هذه الأفكار ساعدتني كثيرًا رغم أنني وجدت اختلافات عميقة بيني،وبينها؛ لأنها تبني قيمة الإنسان على أنه مخلوق من مخلوقات الله؛ وهذا يعني أن من لا يؤمن بالله لن يجد قيمة له أو معني لحياته، ورفضت ذلك بشدة، لكن رغم اختلافي مع هذه الأفكار، جعلتني أفكر في قيمتي لأول مرة كشيء مستقل عما أنجزه.
بدأت أفكر أن المعني مرتبط بوجود الحياة. بدأت أفكر أن كل إنسان/ة لحياته/ا معني بمجرد الوجود. فكرت أن ما خلق ألم اضطهاد الأقليات داخل المجتمع هو قيام كل فرد باضطهاد الأقليات في حياته. عندما تقوم تلميذة في المدرسة برفض اللعب مع زميلتها بسبب اختلاف دينها، فهي تخلق معني الاضطهاد بهذا الفعل الصغير. الاضطهاد هو مجموع أفعال صغيرة وكبيرة ضد الأقلية المضطهدة. فكرة مثل فرض نموذج محدد للجمال الشكلي هي نتاج أفعال صغيرة مثل تعليقات الزملاء، والعائلة، والأصدقاء على سمنة المرأة مثلاً، وفرضهم بتعليقاتهم العابرة لفكرة معينة لدي المرأة -أو الرجل-للجمال الشكلي. عندما تلقي/ن بنظرة جارحة لشخص ما بسبب منظره أو ميله الجنسي أو فقره أو عجزه، فأنت تؤكد/ين معني عميق جدًا هو رفض لهذا الشخص، ولما يمثله. على صعيد اّخر، عندما تقترب/ين من شخص مختلف، وتصادقه/تصادقينه، وتتحدث/ين معه حديثًا عاديًا جدًا، فأنت تقاوم/ين منظومة كاملة من رفض الاَخر يفرضها المجتمع.
        مجرد وجود ابن/ة أو صديق/ة أو أخ أو أخت في حياة الأب أو الأم أو الصديقة/ة أو الأخ أو الأخت يخلق معني. مجرد الوجود في حياة الاّخرين يخلق معني مضاد للوحدة. حتى الابنة التي تعاني من العجز التام جسديًا تستطيع أن تمنح والديها بمجرد وجودها معني هو أنهما ليسا وحدهما. مجرد وجودك في حياة من حولك هو معني يدفعهم للحياة، ويملأ الوجود حولهم من الفراغ، ويحميهم من الوحدة.
       كل فعل أو حتى امتناع عن الفعل منك كإنسان/ة هو معني، وتأثير، وأبدي.
كيف يكون المعني أبديًا؟
المعني أبدي؛ لأنه يستمر بغض النظر عن صاحبه/صاحبته. لنعود إلى نموذج التلميذة التي تجرح زميلتها برفضها للعب معها بسبب اختلاف دينها. هذا الفعل الذي قد يظهر صغيرًا أو تافهًا حتمًا سيؤثر في زميلتها، وسيوصل لزميلتها رسالة كراهية من الاّخر. هذه الرسالة قد تدفع زميلتها لترد بالمثل على المختلفين عنها. إذا كانت مسيحية، قد ترفض الاقتراب من طفلة مسلمة أخري تطلب منها اللعب معها. وهذه الطفلة المسلمة التي ستجد نفسها مرفوضة بسبب دينها، قد تعود هي الأخرى، وترفضعندما تكبر التعامل مع مسيحيين. بهذه الطريقة، ينمو، ويكبر، ويستمر رفض الاّخر داخل المجتمع. بهذه الطريقة، يستمر المعني الذي زرعته التلميذة الأولي، ولا يموت حتى مع موتها.
فيالنموذج المعاكس الذي تقوم/ين فيه بمصادقة شخص مرفوض اجتماعيًا بسبب دينه أو جنسه أو عرقه أو ميله الجنسي أو مظهره أو أي تمييز اّخر، فأنت تزرع/ين معني أبديًا؛ لأن هذا الشخص سيجد من يحبه رغم اختلافه عنه، وقد يحاول هو أن يحب، ويصادق اّخرين مختلفين عنه، وهؤلاء الاّخرون قد يحاولون بدورهم مصادقة اّخرين مختلفين عنهم، حتى يترسب في مجموعة معينة فكرة القرب من المختلفين. هنا المعني الصغير الذي زرعته/زرعتيه في المجتمع لا يموت.
         كل ما نفعله حولنا هو معني صغير، وكبير، لكن الواقع هو مجموعة من المعاني الصغيرة، والكبيرة. هناك أوقات يسود فعل إيجابي من الغالبية، فتكون غالبية الواقع إيجابية، وفي أوقات أخري يسود فعل سلبي من الأغلبية، فتصير أغلبية الواقع سلبية، لكن لا يوجد وقت أبدًا ينتهي فيه أثر المعني. مهما كانت غالبية الواقع سلبية، وخلقت أنت معني إيجابيًا، فإن هذا المعني يبقي. ومهما ظننت المعني تافهًا، وصغيرًا، فإنه يبقي، ويؤثر؛ لأن المعني لا يوزن على أي ميزان كالإنجازات التي توزن على ميزان المجتمع. المعني معني، والتأثير تأثير، وكلاهما باقٍ، وأبدي مهما صغر.
بغض النظر عن وزن "إنجازاتك" على ميزان المجتمع، لك قيمة، ولحياتك معني؛المعني ملاصق لوجودك، لمجرد وجودك معني، ومعني وجودك أبدي،
   لك قيمة،
            لحياتك معني،
            لمعناك أبدية،
             استمر/ي في خلق المعني،
             استمر/ي في الوجود،
             استمر/ي في الحياة.


الثلاثاء، 6 ديسمبر 2016

عنها و عن مشروعي

(هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).

لما بأفكر في الحملة دي بأفتكرها؛ مش عارفة هي كانت جزء من تفكيري في الحملة دي و لا لأ بس مش عارفة أفكر في الحملة من غير ما أفكر أهديها ليها.
هي كانت حد شجاع أوي، و قوي أوي، و حر أوي؛ و علمتني حاجات كتير أوي. كان نفسي أشاركها حاجات كتيرة وصلت لها دلوقتي، منها الحملة دي؛ بس برضه حاجات جوايا أوي شخصية. كان نفسي الحاجات اللي هي ساعدتني أوصلها تكون معايا و تشاركني و أنا واصلة لها.
أنا عرفتها بالصدفة علي الفيسبوك. أنا عمري ما بأضيف حد ما أعرفوش؛ بس بعت لها عشان أبدي إعجابي بيها، و بشجاعتها، كانت بتكتب عن حاجات المجتمع لا يمكن يدافع عنها؛ و بتقبل إن المجتمع كله يهاجمها، و الناس تشتمها علي الفيسبوك، و تطعنها. ما كنتش بتخاف من الناس أبدًأ في دفاعها عن أي حاجة مؤمنة بيها.
بعد فترة طويلة عرفت إنها من متحدي الإعاقة الحركية. إتصدمت. كل معرفتي بيها كانت إنها حد بيتحدي أفكار المجتمع في تابوهاته، و ما بتخفش من أي حاحة تتقال عليها، و بتعترف بحاجات في حياتها قدام الناس كلها من غير خوف، تخلي المجتمع يعلق لها المشنقة. لكن لما كمان إكتشفت إنها من متحدي الإعاقة كنت مصدومة أوي. إزاي؟!
مع الوقت عرفت إنها كاتبة، و مدرسة، و مصممة أزياء، و رسامة. كان رسمها جميل أوي أوي أوي، و تصميماتها كانت مميزة، و كتابتها كمان. أكتر حاجة مهمة فيهم إنهم كانوا حقيقيين؛ حقيقيين أوي، و بينبضوا بروحها الحرة. أنا ما كنتش عارفة أحرر نفسي قدام نفسي بحرية زيها؛ كنت لسه أسيرة سجن حاجات كتيرة جوايا؛ رباني عليها المجتمع حتي لو مثلت إني إتحررت منها، و إتحديت المجتمع. كانت حرة قدامي، و أنا مقيدة؛ كانت بتوريني عجزي أنا، و قدرتها هي، سجني أنا، و حريتها هي.
كان نفسي نتقابل؛ بس عرفت قهر تاني. كانت يتيمة، و خالها هو المسؤول قانونًا عنها عشان إعاقتها؛ و كان بيتحكم فيها، و ما بيسمحلهاش تخرج أو حد ما يعرفهوش يزورها. عرفت إن المجتمع و الدولة ما رحموهاش للمرة المليون، و فرضوا عليها إنها تعيش تحت حكم حد عشان يتمها، و إعاقتها. عرفت إنهم لا يمكن يسمحوا إنها تكون حرة.
بس برضه كانت حرة لاّخر لحظة؛ و فضلت تكتب، و تقاوم، و تتحدي المجتمع المريض ده لحد اّخر نبض فيها برسمها، بتصميماتها، بكتاباتها، بلسانها الطويل؛ بكل حاجة.
لحد اّخر نفس فضلت حرة. ماتت عندها 22 سنة باكتشاف متأخر لسرطان القولون.
عارفين الناس اللي كانوا بيشوفوني بأعيط، كانوا بيقولوا لي إيه؟
"إترحمت"
أنا إتجرحت أوي ساعتها؛ كأن المفروض إنها تموت، و ده أقصي طموحها عشان تكون سعيدة في حياة ما لهاش أمل فيها بسبب نظام إجتماعي و سياسي و قانوني مضطهد لكل حاجة فيها. كأن مش حقها تحلم، كأن مش حقها تعيش سعيدة أو حتي تحقق اللي تستحقه بموهبتها و فنها. كأن كل حقها إنها تترحم بالموت من قهر، و ظلم مجتمع قذر زي ده.
نفسي أصرخ، و لسه جوايا هي عايشة بعد سنة من موتها، و سنتين علي معرفتي بيها. نفسي الوجع يفضل عايش جوايا. بمكن الوجع مش عايش؛ بس نورها لسه عايش جوايا. لسه عايشة حرة جوايا؛ و كل حاجة بطلع فيها لقدام بأفتكرها؛ بأفتكرها، و بأقول هي جوايا.
و النهارده و أنا بأصرخ، بأصرخ و هي جوايا.
هي صرخة نور هيكمل العمر كله جوايا؛
نور بيعملني دايمًا الحرية،
بيخليني أمشي و هو معايا و أكمل.


https://www.facebook.com/Special-Abilities-609366989242525/?fref=nf  

الجمعة، 11 نوفمبر 2016

جمال اللوحة الناقصة-منشور بمجلة الجامعة الأمريكية AUC Times عدد نوفمبر 2016

(هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).
    
   ربينا على صورة مزيفة مشوهة مثالية عن الجمال. ربينا على أساطير قبيحة كاذبة عنه والخير، وما يجب أن نكون. ربينا على القمع، والقهر باسم أكذوبة "الكمال"، وتحولنا علي يد الأكذوبة لقامعين، ومجرمين مخدوعين يحسبون أنهم يبلغون الجمال بينما يغوصون في القبح، يظنون أنهم يسعون قبل الخير بينما يغرقون في زرع الشر. ربينا أن الجمال واحد، ربينا أن الجمال الكمال، ودفعنا نحو كراهية كل ما هو ناقص، وكل ما هي حي، وحقيقي؛ لأجل عبادة صور مزيفة للجمال المثالي، والخير. ربينا على القمع، والكراهية، والجرح، والشر باسم تقييم واختيار الجمال، والخير. 

    الطريقة التي تربينا بها في المدرسة، البيت، المؤسسات الدينية، الجامعات، النوادي الفنية، الإعلام بكل أشكاله، وبغض النظر عن مصدره، وجنسيته جعلتنا نري شيئًا واحدًا فقط، وهو أن الجمال، والخير في الكمال الشكلي، والكمال الأخلاقي، والكمال الاجتماعي. لا يفرق كثيرًا ما هي الصورة التي تعتبر كمالاً سوآءا في الشكل أو الأخلاق أو في المكانة الاجتماعية، فأيًا كانت الصورة، فالفكرة التي تكمن خلفها واحدة "الكمال". سأشرح ما أعنيه أكثر بأمثلة لكن أولاً سأشرح ما هو "الكمال الاجتماعي". الكمال الاجتماعي هو أن تكون حياة الفرد، وما يصل/تصل إليه متطابقًا مع صورة اجتماعية محددة للحياة الاجتماعية، والنجاح. على سبيل المثال، إذا كانت الصورة الاجتماعية للمرأة الناجحة في الطبقة فوق المتوسطة المصرية هي المرأة التي تكون أسرة مستمرة، ولا تطلق، وتستطيع أن تربي أبناءها في أفضل مدرسة، وتتفوق في عملها، فإن المرأة التي تحقق كل ذلك هي المرأة "الكاملة" التي تصل للكمال الاجتماعي. أما من تعجز عن تحقيق ذلك أو تفشل في جزء منه، فإنها تعتبر "ناقصة"، ودون الصورة الاجتماعية المرغوبة.

      "الكمال الشكلي" هو أن يكون الفرد متحليًا/متحليةً بمواصفات الشكل الجسماني، والمظهر الخارجي الملائم لصورة الجمال الشكلي الذي يحددها المجتمع. على سبيل المثال، إذا كانت صورة المرأة الكاملة شكلاً في المجتمع السوداني هي المرأة السمينة، ذات تضاريس الجسد الممتلئة، فالمرأة التي تتحلي بهذا الجسد هي المرأة التي تتصف بالكمال الشكلي أما المرأة التي النحيفة جدًا، فهي تعتبر بعيدة كل البعد عن الكمال الشكلي، و"ناقصة".

 "الكمال الأخلاقي" هو أن يتحلى الفرد بمواصفات السلوك التي يفضلها، ويفرضها المجتمع الذي ينتمي/تنتمي إليه. على سبيل المثال، الرجل الذي ينتمي لمجتمع مسلم محافظ، سيكون كاملاً أخلاقيًا إذا أدي الفروض والسنن الإسلامية، وابتعد عن كل ما يحرمه الإسلام، وسيكون قيام أي فرد بسلوكيات تناقض النظام الأخلاقي الإسلامي بمثابة نقصان، وبعد عن صورة الكمال الأخلاقي. هذه الصورة للكمال الأخلاقي ليست حكرًا على المجتمعات ذات الخلفية الأخلاقية الدينية، بل هي سمة أي مجتمع. المجتمع الياباني مثلاُ مجتمع بعيد تمامًا عن التدين، لكن لديه نظام أخلاقي مرتبط بقيم الشرف، والولاء، ومن يطابق هذه القيم سيصير كاملاً أخلاقيًا أما من يخالفها فسيكون في منطقة النقصان.
الأزمة الحقيقة في فكرة "الكمال"، ووهمها أنها تكمن خلف كثير منالقمع، والظلم، والاضطهاد،والكراهية،والخداع، والقبح الإنساني. بل إنها كذلك تعوق الإنسان من رؤية الجمال، والخير في كثير من صوره التي لم يتربى أن ينظر إليها. هذه الصور تحبسنا داخلها بحيث لا نستطيع أن نري سواها، بل وتعمينا عن مجرد النظر قبال غيرها. على سبيل المثال، صور الكمال الاجتماعي تمنع كثيرًا من البشر من رؤية فرص نجاح، وتحقيق للذات تناسبهم لم يضعها المجتمع ضمن اللوحة. إذا كان هناك رجل مثلاً يريد أن يصير معلمًا لأطفال، ويبتكر طرق تدريس جديدة في مدرسة ابتدائية بدلاً من العمل في شركة متعددة الجنسيات،واقتناء سيارة، وشقة، فإنه لن يحقق حلمه؛ لأنه يعلم أن حلمه لن يجعله بتفادي نظرات النقصان التي توجه إليه من المجتمع. بل الأسوأ أن المجتمع سيمنعنا من التفكير –مجرد التفكير-أن التعليم في مدرسة ابتدائية قد يكون عملاُ مساويًا لرئاسة أكبر شركة متعددة الجنسيات في العالم؛ لأننا تربينا أن نري صورة واحدة للكمال الاجتماعي.مثال اّخر، هو كون المجتمع يفرض لفكرة النجاح في العلاقات أن يتمكن الفرد من إيجاد علاقة عاطفية ناجحة، ولا يسمح المجتمع للفرد الذي يناسبه أكثر أن تكون علاقاته كلها صداقات قوية أن يشعر بالنجاح في علاقاته الاجتماعية أو يرضي بنفسه أو حتى يفكر أنه قد يكون مناسبا له أن يبقي على علاقات صداقة دون حب عاطفي؛ لأنه بدون علاقة عاطفية سيبقي ناقصًا في نظر المجتمع.
     القمع، والكراهية، والعمي الذين يسببهممفهوم "الكمال" لا يطفحان على الاّخرين فقط، بل يطفحان كذلك على الذات. المرأة السمراء السمينة ذات السعر الأسود الخشن القصير التي ولدت في مجتمع يقدس صورة المرأة الشقراء الرشيقة ذات الشعر الناعم الطويل قد تكره نفسها، وتكره جسدها، وتقمع نفسها بمحاولة مواراة جسدها في ملابس تجعلها تبدو أنحف، وقد تصبغ شعرها، وترتدي عدسات ملونة، وتفرد شعرها بالمكواة كل يوم. إنها تقمع جمالها في محاولة منها لإرضاء صورة الكمال الشكلي، وتعجز أن تقف أمام المرآة لتري بعينين لم يعميهما المجتمع جمالها. المجتمع يجعلها تعجز عن رؤية الدفء والاحتواء الذي يكمن في حضن الجسد الممتلئ،ولون البشرة السمراء، والحياة التي تنبض في الشعر الخشن الحر. المجتمع يجعلنا نعجز أن نري أو نشعر إلا بما يريدنا أن ننظر إليه، ونشعر به. المجتمع يحرمنا حق رؤية الجمال، وتذوقه، وعشقه إلا إذا كان يتصف مع معاييره للكمال.
 هذا يظهر بجلاء أكثر في مفهوم "الكمال الأخلاقي"؛ فالمجتمع –أي مجتمع-يضع معايير ثابتة لما هو أخلاقي، ويجعل الأفرادعاجزين عن رؤية سواها، أو التفكير في احتمال وجود خيارات أخلاقية أخري. على سبيل المثال، النظام الأخلاقي التقليدي الغربي يري أن التعدد خيانة للعلاقة الزوجية المقدسة. الفرد الذي تربي في مجتمع غربي لن يفكر قط أنه قد يكون هناك أفراد اّخرين في علاقات زوجية متعددة لكن بها حب، وعطاء، ووفاء بمفهوم مختلف عن المفهوم الكاثوليكي للوفاء.والأسوأ أن مفهوم "الكمال الأخلاقي" يجعل الأفراد يكرهون أنفسهم، ويرفضونها؛ لأنهم مهما حاولوا أن يصلوا لأن يكونوا متفقين تمامًا مع المنظومة الأخلاقية للمجتمع سيفشلون. يلجأ الأفراد تحت وطأة قمع منظومة "الكمال الأخلاقي" لتصرفات مشابهة لتصرف السمراء السمينة؛ إنهم يلجؤون لرسم صورة كاذبة خارجية لهم أمام المجتمع؛ منظومة "الكمال الأخلاقي" تكمن خلف "النفاق الاجتماعي".

     هل يعني ذلك أن الأفراد لا يجب أن يحاولوا أن يرتقوا أخلاقيًا؟ لا، ما أعنيه أن الأفراد يجب أن يتمتعوا بحرية النظر خارجسجن المنظومة الأخلاقية للمجتمع؛ بحيث يستطيعون رؤية الخير والشر في أمور أخري غير التي يفرضها المجتمع. والأهم ألا يقيم الأفراد بعنف، وتحقير، وإذلال، ويجبرون على النفاق لأجل أن يصلوا لصورة أحادية للجمال الأخلاقي يفرضها المجتمع.
الأزمة الحقيقية في كل منظومات الكمال أنها تمنع رؤية جمال الأفراد بنقصانهم، وحياتهم؛ فكل ما هو حي ناقص.هناك جمال حقيقي فيما هو حي، وناقص، هناك جمال حقيقي في جروح الجسد، في الألم، في الخطأ، بل والخطيئة الإنسانية، هناك جمال في الحياة الاجتماعية المختلفة بكل ما يمكن أن يحدث فيها من غلطات سوآءا على المستوي العملي أو الشخصي. هناك جمال فيما هو حي. منظومة الكمال تعمينا عن رؤية هذا الجمال، تجعل كل واحد/ة منا ضريراً/ضريرةًلا يري/تري الجمال في نفسه/ا الناقصة قبل أنفس الاخرين.

ذق/ذوقي طعم النقصان؛ أنتَ ناقص/ة،أنت حي/ة؛أنت
 جميل/ة.

أ

السبت، 22 أكتوبر 2016

عن انحياز الأسئلة-منشور بمجلة الجامعة الأمريكية AUC Times عدد أكتوبر 2016

              (هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).

             السجن الفكري ليس فقط أن يعجز العقل عن التفكير فيما لا يسمح به السجان؛ السجن الفكري أيضًا ألا يستطيع العقل أن يسأل -حتى عندما يتمرد-إلا من زاوية واحدة. السجن الفكري ليس فقطالعجز عن السؤال في التابوهات مثل الدين أو الجنس أو السياسة، إنما هو أيضًا ألا يستطيع العقل المتسائل أن ينظر إلا من زاوية واحدة حتى،وإن كانت هذه الزاوية هي التمرد على المؤسسات القائمة، والأفكار التقليدية. السجن الفكري هو سجن الأسئلة، وهو كذلك تشويش عين العقل بحيث لا تري-حتى عندما تسأل-إلا الأسئلة التي دفعها السجان صوب سؤالها. 

            يعتقد المتشككون في الدين، و"المتمردون" على النظم الاجتماعية أو الدينية أو السياسية أنهم في قمة المصادمة، والقتال، والحرية عندما يسألون أسئلة معينة أو يهاجمون الدين أو المجتمع أو الدولة علي أشياء معينة يظنونها أساسية، ومحورية لهذه النظم. يفرح الداعي لخلع الحجاب عندما يجد نفسه متشككًا، ومتسائلا فيما يظن أنه قيد أساسي رجعي في الدين علي المرأة، ويزهو بنفسه أكثر، وأكثر عندما يكتب مقالاً أو حالة فيسبوكية يسرد فيها كيف يسلب الإسلام المرأة حريتها، وحقها في جسدها بفرضه للحجاب أو النقاب عليها. وتنتفخ المناضلة لحقوق المرأة عندما تهاجم سماح الإسلام للرجل بالتعدد، وتردد أن الدين يغري الرجل بالجنس، وتسرد الدليل من وجود الجنس، وحور العين في الجنة. وتثبت لنفسها تحديها لمروجي أراء أقلية دينية متخلفة، عندما تتحدي الدعاة المتخلفين الذين يجيزون، ويشجعون ختان الإناث، لتقليل رغبتهن الجنسية. ينتشي المدافع عن حقوق المثليين عندما يتساءل عن أسباب رفض الدين الإسلامي للمثلية، ويسرد أسبابًا كثيرة يدافع بها عن المثلية، وتخادع من ينظرون إليه، بحيث يظنون أنه يصطدم مع أعتي مقدسات المجتمع والدين، ويطرح سؤالاً قويًا عن غياب العقلانية، والعدالة في رفض الدين للمثلية.

           يتفشخر المسيحي المنشق عن الكنيسة الأرثوذكسية بأنه جرأ أن يسأل:لماذا لا تبيح الكنيسة الطلاق إلا في حالات محددة قليلة للغاية مرتبطة بالجنس والإنجاب؟ ولماذا الجنس هدفه الإنجاب فقط؟ ويمتدح المسيحي المتشكك نفسه -أيًا كان مذهبه-إذا سأل: لماذا الجنس المثلي ضد الطبيعة؟ أو لماذا الزواج بين مختلفي الدين لا يحقق الوحدة الكاملة مثل الزواج بين المتفقين في الدين؟

          كل هؤلاء يفرحون جدًا بما يظنونه تمردًا، وقدرة خارقة علي تحدي المجتمع ومواجهة الدين.هؤلاء يفخرون جدًا بقدرتهم على السؤال في تابوهات المجتمع، والدين، وأنهم لا يخافون مواجهة أنفسهم أو قمع المجتمع. بهذه الأسئلة التي يطرحونها يظنون أن عقلهم في قمة التمرد، وأنه هشم قيوده، وخرج يعدو حرًا خارج الزنزانة، لكن

هل عقلهم فعلاً حر؟ 

          من الخارج، هذا ما يبدو، ليس لهم فقط، إنما حتى للمهاجمين الشرسين الذين يريدون الانقضاض عليهم لإنقاذ الدين من هذه الأسئلة التي أفلتت من عواميد الزنزانة. هذا ما يبدو، لكن ما يبدوهو صورة ناقصة. إنهم فعلا عرفوا شيئًا من طريق الحرية بجرأتهم أن يسألوا أسئلة في الدين أو الجنس أو السياسية، لكن عقلهم لم يذق الحرية التي يظنونها؛ عقلهم ما زال داخل الزنزانة؛ لأن أسئلتهم منحازة.

ما معني انحياز الأسئلة؟

            انحياز الأسئلة هو قيد صلب ماكر شفاف يوضع علي العقل بحيث لا يراه، ولا يدركه السجين بسهولة، وهو يحاول تهشيم قيوده ليفر. انحياز الأسئلة هو أن يكون تفكير الفرد ذاته في السؤال يسبقه افتراضات معينة، تمنع السؤال أن يكون حرًا، وتفرض عليه أن يأخذ شكلاً محددًا، وأن ينظر من زاوية محددة. أعلم أن هذا التعريف يظهر معقدًا، وصعبًا، لكنه سيفهم بسهولة إن حللنا سؤالا تلو الاّخر من الأسئلة "المتمردة" المذكورة فوقًا.

             السؤال الأول كان سؤال الداعي لخلع الحجاب، تساءل الداعي لخلع الحجاب عن سبب فرض الإسلام للمرأة أن تخفي جسدها بحجاب أو بنقاب، لكنه لم يسأل أبدًا لماذا فرض الإسلام علي الرجل ارتداء ما يستر ما بين البطن لأسفل الركبة. تساءلت المناضلة لحقوق المرأة عن سبب سماح الإسلام للرجل بالتعدد، وعن سبب وجود جنس، وحور عين في الاّخرة، وحاولت التصدي لختان الإناث كشكل من أشكال التخلف، لكنها لم تتساءل لماذا لم يسمح الإسلام للمرأة بالتعدد أو لماذا لا يوجد حور عين رجالا، ولم تحاول الهجوم على ختان الذكور. لقد افترضت أن الدين أخطأ في السماح بالتعدد، وفي إيجاد حور عين في الاخرة. لم تحاول أن تنظر من زاوية تنتقض فيها الدين مع القبول بالتعدد أو بإيجاد ذكور يوفرون للمتعة الجنسية في الاخرة. ودافعت عن الأنثى من تشويه جسدها بالختان، لكنها لم تفعل الشيء نفسه –بل لم تشك فيه أصلاً أو تتساءل عنه-بالنسبة للذكر. تساءل المدافع عن حقوق المثليين عن سبب كون المثلية خطأ في وجهة نظر الدين الإسلامي، لكنه لم يفكر أن يسأل عن سبب كون الغيرية صوابًا في الدين. لقد افترض من البداية أن الغيرية صواب، وبدأ يدافع عن صواب المثلية. الشيء نفسه فعلا المسيحي المتشكك عندما تساءل عن سبب كون المثلية في وجهة نظر الدين المسيحي "ضد الطبيعة"، لكنه لم يتساءل عن سبب كون الغيرية بين العقيمين شيئًا "طبيعيًا" حتى عندما لا يستطيعون الإنجاب. عندما تساءل المسيحي الأرثوذكسي المنشق عن سبب عدم سماح الكنيسة بالطلاق إلا في حالات معينة منها عدم الإنجاب أو كون الجنس هدفه الإنجاب، لم يسأل عن سبب سماح الكنيسة للعقيمين بالزواج؟ افترض أن سماح الكنيسة للعقيمين بالزواج شيء عادي، رغم أنه يتناقض مع فكرة أن الجنس هدفه الإنجاب التي تعتنقها الكنيسة. وعندما تساءل المسيحي المتشكك عن سبب كون الزواج بين مختلفي الدين لا يحقق الوحدة الكاملة، لم يفكر أن يسأل هل الوحدة الكاملة صواب أم خطأ؟ ولم يفكر أن يسأل إن كان الزواج بين متفقي الدين صوابًا أم خطأ؟ لم يشك مثلاا أنه مضر للأطفال أن يتربوا في بيت بلا تعدد فكري، وديني.

                 لماذا لم يسألوا هذه الأسئلة؟

           لأنهم ببساطة، لم يتحرروا بعد من السجن، مازالوا تحت قيد انحياز الأسئلة. الداعي لخلع الحجاب متأثر بنظرة اجتماعية تركز على جسد المرأة، وما تلزم بارتدائه، وتهمل جسد الرجل. المناضلة لحقوق المرأة متأثرة بأفكار ثقافية ترفض التعدد، وتعتبر الجنس نجاسة لا يجب أن تكون موجودة في الاّخرة، ولا تنظر للأعضاء التناسلية للذكر كما تنظر لأعضاء الأنثى. المسيحي، والمسلم اللذان يتساءلان عن نظرة الإسلام، والمسيحية للمثلية غارقان في طريقة تفكير المجتمع، والدين بحيث لا يسعهما أن يسألا أصلا عن الغيرية التي تربا أنها هي الأساس،والطبيعة التي لا تقبل الشك. المسيحي المتشكك مشفوط داخل نظام فكري يري الزواج هو الوحدة، ولا يتصور أبدًا أنهما شيئان مختلفان، وليسا واحدًا. المسيحي الأرثوذكسي المنشق اعتاد تمامًا من الكنيسة تزويج العقيمين، فلم يكن له أن يفكر أبدًا أنه قد يكون مناقضًا لفكر الكنيسة.


            اسأل/ي نفسك كيف تسأل/ين، وقبل أي سؤال، انظر/ي هل هناك زاوية أخري يمكن أن يسأل بها السؤال؛ حتى لا تخدع/ين نفسك أنك حطمت كل القيود، وأنك تطير/ين حر/ة، بينما -في الحقيقة- حول جناحيك قيد صلب شفاف ينتش في ريش عقلك، وكلما طرت، سقطت في الزنزانة.  

الاثنين، 10 أكتوبر 2016

عن التعذيب الذي يدعي"علاجًا"، والجلادين الذين يدعون "أطباءًا"-علاج المثلية

      (هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).

     أرهقت من هذا المجتمع وقذارته، وقسوته؛ يلومني أنني أغضب، وأثور، ولا أصمت، ولا يلوم نفسه أبدًا علي ما يفعله بي أو بمن أحب. سئمت هذا المجتمع، وجرائمه تجاهي، وتجاه كل من أحببتهم في حياتي لأسباب مختلفة، وأثور أكثر لشعوري أن المجتمع يلومني، ويسخر مني، ويضحك من غضبي، وهي لا يدرك للحظة حجم الألم، والتعذيب الذي يعرضني، ويعرض من أحب له. أنا أحارب هذا المجتمع، وأحاول أن أعالج الاّلام التي يجرحها لمن أحب؛ لذلك أحيا، ولذلك أكتب.
          لدي أصدقاء الاّن في مصحات ل"العلاج" النفسي؛ لأن أهلهم أجبروهم علي "العلاج" من المثلية. أنا لا استطيع أن أصل إليهم، لكنني غاضبة، وثائرة، وموجوعة، وخائفة. أعرف ما هو "العلاج" المدعي الذي يجبر المجتمع المثليين علي معاناته –رغم أنه ممنوع طبيًا في كثير من دول العالم، و مرفوض علميًا-. أعلم أن المصحات التي أجبر أصدقائي –ككثير من المثليين- دخولها، تستخدم هذا التعذيب لأجل إجبارهم علي تغيير ميلهم الجنسي، رغم أن هذا التعذيب مشكوك فيه تمامًا، ولا يوجد إجماع أو حتي غالبية طبية تؤيد نجاحه عالميًا. إنهم يتبعون طريقة علاج ابتدعها طبيب نفسي في منتصف القرن التاسع عشر، وشكك تمامًا في نتائجه، وإتضح أنه زورها! علاوة علي أنها طريقة علاج غير أخلاقية، وإجرامية تعتبر شكل من أشكال التعذيب البدني، والنفسي للمثليين، وينتج عنها تدهور الحالة النفسية، والاكتئاب، وفي حالات نادرة الانتحار.
         "العلاج" المدعي للمثلية يقوم علي أساس إعطاء المثلي مخدر يجعله في حالة بين الوعي و اللاوعي ثم عرض صورة مثلية مثيرة، وإعطاؤه مع مشاهدتها دواء يسبب القيء، فيربط المثلي في لاوعيه المثلية بالقيء، فيشعر بالاشمئزاز من المثلية. هذه هي طريقة "العلاج" في المرة الأولي، أما في المرة الثانية، فبدلاً من إعطاء المثلي الدواء للقيء تتم كهربته بعنف، و تعذيبه أثناء مشاهدته لمشاهد مثلية مثيرة؛ ليرتبط بين الألم، والتعذيب، والمثلية. نتيجة هذا التعذيب، يدخل المثلي في حالة اكتئاب حادة، وربما يتسبب له الأمر في بعض الأمراض النفسية الأخري، وربما يصل الأمر للانتحار. و لا يؤدي هذا "العلاج" المدعي لأي نتائج علمية يعتد بها من تغيير الميل الجنسي؛ فهو يؤدي فقط لتنفير المثلي من الجنس لفترة قصيرة بعد التعذيب، ويعود بعدها لسابق عهده.
          هذا التعذيب ممنوع في كثير من دول العالم، لكنه مسموح به، بل ومشجع في مصر، وكثير من الأهالي يجبرون أبناءهم عليه دون رحمة؛ لأن هذا المجتمع القذر لا يبالي بتعذيب المثليين بل يفرح له، ويتلذذ به. كل ما يهم هذا المجتمع أن تكون العلاقة الجنسية بين قضيب، ومهبل بحيث يثبت الذكر ذكورته بخرق مهبل الأنثي. كل ما يهم هذا المجتمع أن يحمي أفكاره الاجتماعية، ومنظومته الذكورية، وثوابته الدينية، لكن طبعًا لا يبالي أبدًا بتعذيب البشر. أفكار المجتمع الذكورية القذرة المنحطة، وعاداته وتقاليده الاجتماعية، وثوابته الدينية هي ما يهمه، أما الإنسانية فلا تساوي شيئًا.
          أنا الاّن في حالة ثورة، واشمئزاز من مجتمع قذر، وخوف شديد علي من أحب، وهم سجني بين أنيابه، وأرتعب من فكرة أنه يهشمهم، ويتلذذ بتعذيبهم في كل لحظة. إدعوا الله أن يحفظهم من أنيابه، صوا لهم؛ لأنني عاجزة عن إنقاذهم، عاجزة أمام قذارة، وقسوة المجتمع.
           

الأحد، 14 أغسطس 2016

عن جروح الرجل الشرقي

      (هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة).

      كامرأة شرقية حسبت الرجل مجرد كائن جنسي متحرش متكبر متعجرف عنيف قاسٍ، و معدوم المشاعر. لم أحسب أن الرجل إنسان بعواطف، و مشاعر، و احتياجات إنسانية رقيقة. هذه النظرة لم تتكون بسبب ما يقوله المجتمع وحسب، بل بسبب أمي كذلك، و ما كانت تقوله عن الرجال. جعلتني أؤمن أن كل رجل يريد جسدي، و أنها تريدني أن أمنحه لمن يدفع ثمنه في إطار شرعي "الزواج". لم أقبل أن أباع؛ كرامتي أغلي من ذلك، و تحديت فكرة ارتباطي بأي رجل. تحرش الرجال بي، و كلام المجتمع، و دفاعه عن قمع المرأة بحجة رغبة الرجل، و غياب العواطف لديه؛ هم أيضًا جعلوني أصدق الأسطورة  الشريرة "الرجل" التي يصدرها المجتمع.
          بقيت كذلك سنوات طويلة؛ حتي قابلت رجلاً غير مفهومي عن الرجال. كان غربيًا؛ فلم يبالٍ أن يظهر مشاعره، و يبكي أمامي. دافع عن حقوق كل فئة مضطهدة، و مظلومة؛ لأنه شعر بألمها؛ و بكي لأجلها، و أظهر لي الحنان، و الحب، و الرقة، و الاحترام. كانت المرة الأولي التي أبدأ فيها في رؤية مفهوم جديد عن الرجل "الرجل كإنسان". هذا الرجل علمني أشياء كثيرة عن الجندر، و علمني أن فكرة "الرجل"، و "المرأة" هي مجرد أفكار يخلقها المجتمع، و مجرد صور يجبرنا أن نمثلها. ما علمه لي رأيته لاحقًا في رجال اّخرين؛ بعده استطعت أن أغير منظوري للرجل، و دفاعي عن حقوق المرأة؛ لم أعد أري المرأة مضطهدة وحدها في المجتمع الذكوري.
           عندما فتحت ذراعي للرجال، و اّلأمهم، بدأت أري وجهًا اّخر؛ جعلني أغير منظوري للرجل؛ بدأت أري جروح الرجل الشرقي. أصدقائي الرجال الشرقيون جعلوني أري ما يعانيه الرجل الشرقي من الداخل؛ و أشعر بألمه، و جرحه. الرجل الشرقي يحرم مشاعر كثيرة رقيقة؛ يحرم حنان أمه، و رقتها، و يفرض عليه أن ينظر لأبيه، و حتي علاقته بأبيه تكون جافة. الرجل الشرقي يجبر أن يقمع مشاعره الإنسانية، و يحرم حق الدموع، و التعبير عن مشاعره؛ إنه يجبر أن يفطس مشاعره حتي تموت. احتياجاته العاطفية لا يعترف بها؛ لأنه ينظر لها كضعف؛ مشاعر الحتياج الوحيدة التي يسمح للرجل الشرقي أن يشعر بها هي الرغبة الجنسية؛ بل و يجبر أن تكون مهمة عنده، و يظهر اشتعالها؛ ليثبت ذكورته. بعض الرجال يحولون كل احتياجاتهم العاطفية نحو الجنس أو الألم الجسماني؛ لأنهما الشعوران الوحيدان المسموح للرجل أن يصرخ بهما. حتي في الحزن، لا يسمح للرجل أن يتألم من داخله؛ و يجبر الرجل أن يخفي أي مشاعر حب أو احتياج لحنان أو دفء أو أمان. هذه المشاعر مسموح بها للنساء و الأطفال الصغار فقط؛ و الرجل الشرقي يجب أن يكون "رجلاً". الرجل الشرقي يمنع حق الطفولة؛ يطلب منه أن يتحمل المسؤولية صغيرًا جدًا، و لا يسمح له أن يمرح أو يلعب أو يذهب لحضن ينام فيه. طفولة الرجل تعتبر جريمة، و أي مشاعر قريبة من الطفولة كالاحتياج العاطفي، و الرغبة في الاهتمام، و غياب المسؤولية، و التعبير عن المشاعر بعفوية، و بساطة تعتبر خطيئة كبري للرجل؛ تنقص من رجولته. و عندما يصير الرجل ناضجًا و أبًا يفرض عليه ألا يعبر عن مشاعره لأبنائه و بناته، و يحرم حق إعطاء الحنان، و الحب، و الأمان مثلما حرم حق أخذهم.
            كل ذلك يخلق إنسانًا مشوهًا بلا إحساس أو مشاعر؛ لأنه أجبر علي قتلهم. كل ذلك يخلق حيوانًا مفترسًا يعشق الجنس، و العنف؛ لأنه لم يجد غيرهما مشاعر تمنح له أو يسمح له بها؛ و لأنه لا يسمح له بالتعبير بغيرهما. الرجل الشرقي ليس كائنًا جنسيًا متحرشا متكبرًا متعجرفًا عنيفًا قاسيًا بالفطرة؛ الرجل الشرقي تفرض عليه هذه الأدوار، و يري نفسه فيها وحدها؛ لأن أدوارًا كثيرة أخري يحرم عليه مجرد الدنو منها؛ و إذا تجاسر، و خالف الأدوار المفروضة عليه حكم عليه باحتقار المجتمع. يكفي لحرمان الرجل أي احترام أو كرامة أن تلصق فيه تهمة القرب من الأنوثة أو الرقة أو الاحتياج؛ يقال عنه "مش راجل"، "منسون"، "خول"، و كلها مرادفات كفيلة بالقضاء علي أي احترام له اجتماعيًا، و حرمانه من كرامته الإنسانية.
          و إن كان حظ ذلك الرجل الشرقي أنه مثلي أو حتي غيري لكن به شيء من الأنوثة أو منعدم الميل الجنسي أو عاجز جنسيًا فألمه سيصير أعنف؛ و جرحه أعمق؛ لأنه سيمنع حق أن يكون نفسه؛ سيحكم عليه بالعيش في الظلام، و قتل نفسه، و جزء من روحه. كل ذلك؛ لأن المجتمع مصر أن الرجل شرط رئيسي لاحترامه هو اختراق قضيبه لمهبل المرأة، و تركيعه لها في العلاقة الجنسية أثناء الإيلاج. الرجل يربي علي كون رجولته في استغلاله، و تركيعه لجسد المرأة.

         كيف بعد كل ذلك يمكن أن نطلب من الرجل الشرقي أن يبقي سويًا؟! كيف نجرد إنسانًا من عواطفه الإنسانية، و نطلب منه أن يبقي إنسانًا؟! كيف نسلبه روحه، و نطلب منه ألا يدمن الجسد؟! الرجل الشرقي مجرم، و ضحية لمجتمع مريض برجاله و نسائه؛ الرجل الشرقي ضحية سلبه أغلي ما يحتاجه الإنسان. الرجل الشرقي ضحية جروح عميقة جدًا من سلب المشاعر، و تفطيس كل احتياج إنساني. الرجل الشرقي ضحية قمع المجتمع الذكوري.    

الأربعاء، 22 يونيو 2016

كيف أري الله؟

           أول معرفتي بالله، و أنا صغيرة كانت حديث أمي و جدتي عنه، قالتا لي أنني لا يجب أن أتخيله أو أرسم له صورة، لكنني عجزت عن ذلك، و رسمت له صورة بخيالي قريبة من القراّن. و في مدرستي، لم يتحدثوا أبدًا عن الله، فقط حدثوني عن عذابه، و جنته. علمونا و نحن في السابعة من العمر أننا إلم نصلِ، فيلقي بنا في النار، و تفننوا في تصوير النار، و عذابها، و وصف الأفاعي التي ستهبط بنا إلي الجحيم. أتذكر يوم وصفت لنا مدرسة اللغة العربية في أكثر من نصف الفصل العذاب إلم نصلِ، و كيف عدت إلي المنزل و صليت، و بقيت منذ حينها أصلي بشكل منتظم لا تفوتني صلاة. أتذكر أنني رغم أنني صليت خائفة إلا أنني دعوت الله، و أنا أصلي دعوات معينة دائمة، و أنني حدثته بقرب، و بثقة أنه سيسمعني، و لم يرفض لي طلبًا قط تمسكت به، بل و حتي ما تمنيته، و لم أطلبه منه، وجدته يأتيني.
           أديت الفروض سنوات، و حاولت أن ألتزم بكل خلق تربيت علي أنه صحيح. علاقتي بالله كانت مباشرة، و بدون حواجز. و لم أفكر حينها في كم التناقضات التي غذوها فيَ عن الله. بقيت هكذا سنوات حتي بدأت أفكر بمنطق، و قررت ألا أمس الدين أو الله بأفكاري أبدًا، وضعتهم في مكان بعيدًا لا أقربه، لكنني قررت أن أصنع لنفسي نظامًا أخلاقيًا مستقلاً عن الدين، و معتمدًا علي عقلي. بقيت أكون في هذا النظام الأخلاقي سنوات، حينها حاولت أن أحاكم الأخلاق بالمنطق لا بالدين، و ما قررته كنظام أخلاقي، ثبتت عليه، مهما دفعت من ثمن باهظ لأجله. ظللت حينها أؤدي العبادات، و حافظت علي علاقة مع الله خاصة، لكنني لم أجرأ أن أمس الدين أو الأفكار العقائدية أو صورة الله.
         مضي عامان (ما بين السادسة عشرة و السابعة عشرة)، و أنا أحاكم الأخلاق، و لا أمس الدين. و أظن أنني قرأت أول كتاب عن أسئلة عقائدية في تلك الفترة كتاب مالوش اسم. حينها رفضت أغلب أفكار الكتاب عن الله، و الاّخرة، و ظننته كتابًا تافهًا، لكنني عدت لأفهمه سنوات بعدها. كنت مستعدة حينها أن أتبع نظامًا أخلاقيًا يختلف عن (و أحيانًا يتناقض مع) الدين، لكنني لم أستعد لمحاكمة أي فكرة كالاّخرة أو صورة الله أو كون دين معين أفضل من الإسلام الذي تربيت عليه.  بعد العامين، حدثت مجموعة أحداث شخصية جعلتني أفتح الملف المقدس الذي لم أفتحه قط، و جعلتني أبدأ في محاكمة الدين، و الأفكار العقائدية، و الفقهية. و مع الوقت، كان المزيد داخلي، و حولي يحدث يدفعني لأفكر فيما أرعبني مجرد الاقتراب منه.
         مع الوقت بدأت أواجه وجعًا داخلي من الدين. بدأت أواجه ما أراه ظلمًا في الدين. كبت طويلاً وجعًا داخلي؛ شعوري أنني أنثي لذلك حكم علي أن أمنع المساواة الكاملة مع الرجل، و أعامل كأضعف منه. عندًا صمت رمضان، و لعبت رياضات قتالية، و أنا حائضة دون مسكن ألم. أردت أن أثبت أن كوني امرأة لا يجعلني ضعيفة أو عاجزة عن القتال و العبادة. تألمت؛ لأنني لا أساوي الرجل في الشهادة أو الميراث، و أن حتي جسدي ينظر له كشيء مثير يجب تخبئته حتي لا يثير الرجال. تألمت؛ لأن سارة أعز صديقاتي، لن تشاركني الجنة، و أنني أخجل أن أدعوها للإسلام حتي لا تذهب إلي النار. تألمت؛ لأنني شعرت بالظلم، فمن يولدون مسلمين يتمتعون برفاهية الذهاب للجنة دون تعب أما من لا يختار الله له أسرة مسلمة، فيحاسب علي أنه لم يبحث عن الإسلام.
        مع الوقت زاد ألمي؛ لأنني بت أؤمن بأشياء أكثر تعارضًا مع الدين، و أري أن الدين ظالم فيها مثل رفض الدين للمثليين، و لأنني بت أفكر في أسئلة أعمق، و بدأت أري الأمور من زاوية مختلفة. و بدأت أتساءل إن كان الله ظالمًا و شريرًا أم لا. لم أشك للحظة أن الله موجود؛ خاصة أنه استجاب لكل دعاء من قلبي، لكن صورته التي رسمت أمامي من الدين جعلتني أتساءل أهو شرير أم خير. فكرت أن الرب الذي يكره من لا يؤمنون به، و قد اختار لهم أهلهم، و دينهم، و يعذبهم، و يأمر بتعذيبهم رب شرير. فكرت أن الرب الذي يأمر يتعذيب الزناة رب قاسٍ، وشرير. فكرت أن الرب الذي يسلب المرأة حقوقها، و يخلقها أنثي ليكتب عليها حقوقًا دون الرجل، و يأمرها أن ترضي، و تخضع للظلم رب ظالم. و فكرت أن الرب الذي يأمر بتغذيب المثليين، رب شرير. و بدأت أفكر أن الرب الذي يضع قوانين للناس، و عبادات عليهم إتباعها، و إن خالفوها يلقهم بالناررب شرير و تافه. بات يشبه في عيني ديكتاتور شرير و مغرور و تافه يأمر الناس بأوامر، و عندما لا يطيعونها، يغضب لكبريائه، و يعذبهم.
        كتبت قصة هي في الحقيقة خطابًا مني لله، و شرحت فيه كل غضبي، و ثورتي عليه، و جاءني منه رد ما توقعته قط. لا أريد أن أحكي كيف رد عليَ، لكنه قال لي أنه خير، طيب، و يحبني. حينها تغيرت علاقتي به، و نظرتي إليه.
           اّمنت أنه لا يكره بشرًا، و لا يظلمهم. لم أعد أراه تافهًا أو شريرًا، و بت أؤمن أنه لن يظلم أحدًا قط. اّمنت أنه لا يمكن أن يلقي ببشر في نار أو يعذبهم؛ لأنهم خالفوا قوانين وضعها. اّمنت أنه ليس ديكتاتورًا مستبدًا يريد إرضاء غروره. بت أؤمن أنه يحبني، و يجب الناس، و لا يكرههم بسبب دينهم أو جنسهم أو عرقهم أو مكانتهم الاجتماعية أو ميلهم الجنسي، و الأهم أنه لا يري أحدًا فيهم أفضل من الاّخر لسبب من هؤلاء. رأيت الله يصل لناس مختلفين علي أديان مختلفة –حتي أديان غير سماوية- بطرق مختلفة. و رأيته يمد يده و يساعد حتي الملحدين مساعدة حقيقية. إنه لا يكره أحدًا. ربما يحقق العدالة ضد الظالم، لكنه لا ينحاز ضد أي إنسان. لا أعرف تمامًا ماذا ينوي أن يفعل بنا بعد الموت، لكنني أثق فيه، و في حبه، و في عدله، و حكمته. أري أنه يحبني، و يحب الناس جميعًا، و يريد أن يمد يده للجميع بطرق غير مباشرة، بطرق غريبة لا يمكن أن تكون إلا باختيار و ترتيب منه. حررني كثيرًا، و أرسل لي بشرًا برسالات من عنده إليَ؛ أرسل إليَ بشرًا غيروا حياتي، و رأيته فعل مثل ذلك مع اّخرين.
            إني أحب الله، و لا أؤمن بأي صورة مشوهة رسموها داخلي عنه، لا أؤمن بالرب الجلاد أو الديكتاتور أو الوحش الشرير أو الظالم. إني أحب الله، أحب الرب المحب، المعطي الذي لا ينتظر شيئًا من المحبوب. أحب الرب العادل. أحب الرب الرحيم. أحب الرب المتواضع؛ و أحب ربًا يجب الجميع.
            ربي ليس تافهًا، ربي عظيم، ربي ليس جلادًا، ربي رحيم، ربي محب؛ ربي أعظم


محب.

الاثنين، 6 يونيو 2016

قوانين رمضان: عندما تتشوه العلاقة مع الله بالنفاق و الرغبة في السيطرة وقمع الاّخر

     عندما كنت طفلة، كان رمضان هو شهري المفضل الذي أترقبه من العام للاّخر، و أفرح و أحتفل بقدومه بل حتي ببدء احتفالي أيامًا قبله؛ لتحمسي بقربه. كنت أعشق جو رمضان الدافيء، كنت أعشق طعمه المختلف عن كل شهور السنة، لكنني لم أكن أفهم في هذه السن تمامًا معني الصيام لله رغم أنني كنت أصوم مذ كنت في الثامنة. و عندما كبرت، و صرت أفهم معني الصيام لله، و الامتناع عن شيء تحبه لأجل أحد تحب، و تريد التعبير له عن حبك، كان قد بني بيني و بينه الكثير جدًا بسبب الصورة المشوة لرمضان، وز الدين، و العبادة التي دمرت شعوري بأنني أعبد الله بصيامي؛ جعلتني أشعر أنني أعبد المجتمع أو الناس أو الدولة أو المؤسسات الدينية بصوط القمع.

         رمضان صار فرضًا من المجتمع، و يستعمل أقصي صور تنكيل الدولة لفرضه، رمضان لم يعد اختيار الفرد العابد لله. الدولة و المجتمع  يستخدمون القانون، و السلطة الإدارية، و القضائية لأجل فرض النفاق، و الازدواج. معني أن الفرد لا يملك الجهر بالفطر هو أن الفرد لا يملك حرية الصيام، و لا عبادة الله. كيف تعبد/ي الله  بأمانة و هناك من يفرض عليك العبادة؟ هل العبادة له وحده أم للمجتمع و الدولة؟ لا أعتقد أن نية الفرد في العبادة يمكن أن تكون صافية، و هناك صوط يفرضها. لكن عبادة الله الأمينة لا تعني المجتمع أو الدولة في شيء؛ كل ما يعنبهم هو أن يطمئنوا أنهم يفرضون أحكام الدين، و نمط الحياة الذي يعبر عن هوية الأغلبية المسلمة.

          لماذا يفرض الصوم و يجرم الجهر بالفطر؟ لماذا تفتح الملاهي الليلية، و محال بيع الخمور طوال العام و تغلق في رمضان؟ السبب المدعي هو احترام رمضان، و لكن هذا السبب كاذب؛ لأن من يقول باحترام رمضان يفترض أن رب رمضان ليس رب بقية الشهور، و أن قداسة الرب تدنو قداسة شهر! السبب الحقيقي هو الرغبة في السيطرة، و القوة، و فرض الهوية علي الاّخر. السبب الحقيقي هو الرغبة في فرض الدين الإسلامي (لا كدين) و لكن كهوية للأغلبية علي الجميع (حتي الأقلية غير المسلمة). السبب الحقيقي هو ازدواج، و نفاق المجتمع الذي اعتاد أن يكون الدين مظهرًا اجتماعيًا، و سياسيًا لقوة القبيلة الأكثر عددًا، و لفرضها لمقدساتها علي الجميع. 

         إن كان هذا المجتمع يريد تطبيق الدين الإسلامي قهرًا (و هو ما أحاربه عمري كله بشدة)؛ فعلي الأقل، كان سيفرض أحكامًا واحدة لكافة شهور السنة، لكن الحقيقة أن هذا المجتمع يريد فرض مظاهر الهوية الإسلامية، و فرض علي الجميع احترامها بالإكراه. رمضان رمز للهوية الإسلامية، و التدين الإسلامي تريد الأغلبية فرضه علي الجميع. إنها مسألة استعراض قوة، و سيطرة، و قمع، و فرض لهوية مجموعة بالقسر علي الجميع، و ليست أبدًا مسألة عبادة حقيقية لله. 

        عقوبة الجهر بالإفطار في نهار رمضان مبنية علي أساس من قمع حرية العقيدة، و إقامة التمييز بين المصريين. هذه التهمة تقمع حرية العقيدة؛ لأنها لا تسمح للفرد أن يختار الالتزام بالدين بالصوم أو رفض هذا الالتزام، و الجهر بفطره. و هي تقيم التمييز بين المصريين علي أساس الدين؛ لأن المسيحيين بمصر لا يصومون صيام المسلمين، و بالتالي تناولهم للطعام، و الشراب لا يعتبر فطرأً أصلاً. و في حالة فرض الصيام الإسلامي علي المسيحيين سيكون ذلك قهرًا للحرية الدينية و تمييزًا ضد المسحيين؛ لأن المسلمين غير ملزمين بالصوم المسيحي. و في حالة عدم تطبيق قانون الجهر بالإفطار في نهار رمضان علي المسيحيين؛ فإنه يصير قانونًا ضد المواطنة؛ لأنه يميز بين فعل المسلم و المسيحي من حيث كونه جريمة أو لا؛ فإذا أكل المسلم أو شرب في نهار رمضان توقع عليه عقوبة،و إذا أكل المسيحي أو شرب، فلا جريمة عليه أصلاً. 
           باختصار، صار رمضان شهر فرض إرادة، و إظهار لقدرة الأغلبية المسلمة علي فرض الالتزام شكلاً بأحكام ما تؤمن به علي الجميع الذين يواجهون السجن إن خرجوا علي أحكام العبادات (لا حتي المعاملات) الإسلامية. رمضان صار شهرًا العبادة فيه ليست لله، و لكن خشية المجتمع، و الدولة.
   
           لدي أصدقاء يفطرون سرًا، و هم خائفون من المجتمع و أحكامه، و سجن الدولة. أعلم أن الكثيرين يعتبرون أصدقائي هم المجرمون، و الدولة هي الحريصة علي الدين، لكن الواقع أن أصدقائي هو المظلمون، و المقهورون من طغيان الدولة؛ لا يحق لهم اختيار الصدق مع من حولهم، و اختيار عبادة الله من عدمها. سلبت منهم حرية عبادة الله، و حق الحياة الصادقة بدون نفاق، و هذا من أبشع صور سلب الحرية. 

             أنا أشعر أنني يسلب مني أنا الأخري حقي في أن أشعر أنني أعبد الله. إن الدولة، و المجتمع، و كل مؤسساتهم (و منها الأزهر)، يقفون بيني و بين الله. إنهم يفرضون علي العبادة، فما عدت أشعر أن عبادتي لله سليمة النية له. لم أعد أثق بنفسي أو بما أفعله له. صارت قيمة صومي خارج شهر رمضان حقيقية، و موثوقًا فيها أكثر من صومي برمضان. و في أحيان أخري أيضًا، اكتشف أن كثيرًا من علاقتي بالله يحجبها المجتمع، و الدولة، و جورهم، و انحشارهم في العلاقة. كيف أعبد الله مخلصة -و أثق بإخلاصي- و أنا أشعر أن العبادة تحت التهديد؟ أنا أريد أن أختار عبادة الله. أنا أريد أن أصدق أنني أعبده لوجهه. أنا أريد ألا أري أحدًا بيني و بينه، أريد أن أكون معه وحدي؛ لتكون بيننا علاقة صادقة حقيقية. أنتم تقفون حائطًا منيعًا أمام علاقتي بالله؛ أنا ثائرة عليكم.