(هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة ).
كنت استغرب كيف يحيا أبناء غزة تحت النار ،كيف يعيشون حياتهم و يحتفلون ، و يتزوجون ، و يمضي بهم العمر و هم يعانون ، و يرون الدماء تسيل أمامهم بركاً . كيف تلد الأم الأبناء الكثر و هي تراهم يتساقطون أمامها كأوراق شجرة ضخمة و عتيقة. كيف يحيون؟ لم أكن أفهم و كنت أحلم أن أعيش بينهم و لو لفترة علي أفهم ، و لكني كنت أعلم أنني حتي لو فهمت لن أدرك الا ان كنت واحدة منهم.لم أكن أفهم كيف يعيش العراقيون و هم كل يوم يشهدون العشرات يموتون ، كيف تكون حياة المرء و هو يتعثر في الجثث أينما يسير ، و يستنشق رائحة الدماء و تصير هي الهواء لديه و تحل محل رائحة الزهور،و يسمع الصراخ و العويل و سارينات الاسعاف فتصير هي مكان زقزقة العصافير، و يصير اللون الأحمر هو اللون الوحيد الذي تبصره عيناه. لم أكن أفهم ، لكني الاّن أدركت.
أحاول أن أحزن كلما حدثت كارثة فلا استطيع .أحاول أن أجعل الدموع تنساب فتبرد قبل أن تخرج من عيني.أحاول أن استشعر الأسي و لكنه يرفض أن يقربني.لم أعد أشعر ، لم أحد أحزن ، لم أعد أبكي.كل شيء صار واحداً بالنسبة الي ، الألم ، الاصابات ، الحرائق ، الحوادث ، القتلي كل شيء صار بارداً و مكرراً و بلا قيمة ، صرت أقسي من الصخر لا يؤثر شيء في.كنت أظنني سأبكي عندما أري عشرات القتلي يتساقطون ، كنت أظنني سأصرخ ، كنت أظنني سأنهار ( هذا كان فيما مضي ) و لكني الاّن لا أتوقع أي شيء من مشاعري الحجرية ، لم أعد أتوقع أن شيئاً قد يهزني و يجعلني أتوقف و لو لدقائق عن ممارسة حياتي الطبيعية . حتي ان رأيت الدماء ، حتي لو شممت عطرها النفاذ ، حتي لو كنت أنا من تسيل دماؤها ، سأعود لأفتح التلفاز و الحاسوب و أتفرج علي الرسوم المتحركة و أقرأ الكتب ، حياتي ستبقي كما هي ، و أنا سأظل جبلاً قاسياً كما أنا.
ما الذي جري لي ؟ ما الذي قساني ؟ ما الذي جمدني ؟ ما الذي حولني الي حجر ثم الي صخر و أخيراً جبل ؟لماذا لم أعد أبكي ؟ لماذا صارت دموعي تسيل عند رؤية مشهد حزين في رسوم متحركة و لا تتحرك مليمتر عندما أعلم أن عشرات من لحم و دم ، من وطني ماتوا و لم يصل بعضهم الي سني حتي ؟ لماذا صرت هكذا ؟ لماذا أبلغ المشاعر التي أصل اليها هي الغضب و الغيظ ؟ لماذا تأبي مشاعري أن تتخطي عتبة الألم لتصل الي الحزن ؟ لماذا تجمد الحزن داخلي ، و لم تعد أفران الدماء تقوي علي اذابته ؟ لماذا؟
لدي اجابة و لن أقول أنها الصحيحة و لكنها الوحيدة التي تبدو أمامي .بعدما صارت الدماء كالماء تري كل يوم ، و تحولت الحرائق الي شواء ، و أضحت الجثث دمي ، و أصبحت الحقيقة محجوبة بغيوم لا حصر لها بعرض سماء الوطن كله ، لم يعد شيء بغريب . كل شيء الاّن عادي ، لقد اعتدت و تأقلمت كالحيوانات علي بيئتي الجديدة المشكلة و ليست حواسي الاّن بقادرة علي استشعار أي غرابة فيما حولي . كل ما تبقي مما كان من قدرات حواسي علي الشعور هو الغضب ، لم يتبقي سواه .لم أعد أتألم ، لم أعد أحزن ، لم أعد أبكي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق