الخميس، 22 ديسمبر 2011

اقاليم الحكم الذاتي

(هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة)

(اقاليم الحكم الذاتي) اسم يطلق علي المناطق التي تحوي عرقاً أو ديناً أو لغة مشتركين و تفضل الانفصال عن الدولة الأم ،و كحل وسط –تحت الضغط طبعاً- يقبل سياسيو الدولة الأم أن تحصل هذه المنطقة علي حكم ذاتي بقوانين خاصة و بحاكم خاص ، بشرط خضوعها في المجمل لنظام الدولة الأم.هذا النظام متبع الاّن في كثير من دول العالم ؛و بدونه ستتفكك كثير من هذه الدول الي دويلات و هو –علي أي حال- خطوة أولي للتفكك . أنا لا أكتب عن (اقاليم الحكم الذاتي )في العالم ،و انما في مصر ."هل هناك (اقاليم حكم ذاتي )في مصر ؟ بالمعني السياسي "لا"، و لكن –في اعتقادي- بالمعني الاجتماعي "نعم".
المجتمع المصري الاًن منقسم الي (اقاليم )، قد لا يكون لكل (اقليم) حاكم ،و لكن له نظام حكم ،و أعراف و عادات و تقاليد أقرب للقوانين ، و لديه عقاب مشترك لكاسريها،و لديه لغة واحدة ،و دين واحد.قبل أن تهاجموا ما أكتب و تقولوا أنه هراء، فكروا في الأمر بهدوء.
بسبب الفروق الشاسعة بين الطبقات ،لكل طبقة فكر خاص بها ،طبقة رجال الأعمال و أطبائهم ، و محاميهم لها فكرها المتضاد تماماً لفكر الطبقة المتوسطة المتعارض تماماً مع فكر الطبقة فوق المتوسطة المتضارب تماماً مع فكر الطبقة الفقيرة المتعاكس تماماً مع فكر الطبقة تحت خط الفقر.و هذا الاختلاف الجزري في الفكر جعل كل طبقة تمتلك عرف و عادات مختلفة تناسب فكرها ، و أوجد أكثر من مجتمع داخل المجتمع المصري .و أيضاً كل طبقة لها لغتها و لهجتها الخاصة بها ،و أعرف أشخاصاً يواجهون مشكلة في فهم الحوارات المصرية حولهم عندما يحولون في الشهادات من مدرسة طبقة عالية لاّخري أدني، ببساطة لأن اللهجة المصرية بمرادفاتها تختلف في مصر من طبقة لطبقة ،و من جيل لجيل ،و من حي لحي. فالطبقة الغنية مرادفاتها أغلبها انجليزية ، و الطبقة المتوسطة خليط من الانجليزية علي العربية علي العامية و الطبقة الأدني قليل من الانجليزية علي العامية و الأدني قليل من العامية علي السوقية ،و باختصار لدينا قاموس لكل طبقة في مصر.و حتي الدين ،أو –بالأدق- النظرة للدين في كل طبقة اجتماعية تختلف تماماً عن الطبقات الاّخري.
من الطبيعي أن يحدث لفرد صدمة حضارية عندما ينتقل من بلد لاّخر ، و لكن المصريون تحدث لهم هذه الصدمة نتيجة للانتقال من حي لحي و أحياناً من منطقة داخل الحي لاّخري . فتخيلوا معي ماذا سيحصل لشخص يرتاد (مركز شباب الجزيرة )اذا –فقط – تحول أمتار قليلة و دخل (نادي الجزيرة) الملاصق له؟ تخيلوا ماذا سيحصل لشخص من أسرة فوق المتوسطة يسكن في الدقي مثلاً اذا قرر أن يلقي نظرة –ليست بعيدة- علي عشوائيات الجيزة أو حتي سار في مناطقها الشعبية؟تخيلوا ماذا لو زار عامل بسيط في الاسكندرية (مارينا) ؟ أو ماذا لو قضي شخص من عائلة غنية –قليلاً- يوم وحيد مع عائلته وسط حي شعبي ؟
صدمة حضارية مروعة ! و كأن الأشخاص في مصر يتحركون من وطن لاّخر بثقافة مختلفة جزرياً ،لا لأماكن قد لا تبعد عنهم سوي أقل من ساعة بالسيارة.
أذكر أن مدرساً حكي لي أن لواء شرطة زار حياً شعبياً لجلب عامل دهان ،فاذا به يصدم من طريقة حوار الناس في الشارع ،و بطريقة جلوس النساء علي قارعة الطريق. و أذكر وأظنكم أيضاً تذكرون حوادث كثيرة في مصر لأقارب أو معارف أو حتي لكم شخصياً يتجلي فيها التصادم الموحش بين ثقافات المجتمع المصري المتضاربة.
و ليست المشكلة في اختلاف الطبقات الاجتماعية و حسب ،و لكن هناك أيضاً (اقاليم حكم ذاتي ) من أنواع اّخري في مصر :"الدين و العرق ". مثلاً الكنائس المصرية هي دول صغيرة داخل الدولة الكبيرة ،و هذا أدي لظهور مصطلحات مثل "شعب الكنيسة "و "الشعب المسيحي".طبيعي في مجتمع متدين مثل المجتمع المصري أن يكون هناك دور ملموس للدين في حياة الفرد ،و لكن الخطر الحقيقي أن يتحول هو الي حياة الفرد ،و يزيد انتماؤه للدين و للمؤسسات الدينية علي انتمائه للوطن. و الكنيسة في مصر تنظم مسابقات و أنشطة و حفلات للأطفال و الكبار تأخذ تقريباً العام كله ، (مدارس أحد يومي) الجمعة و الأحد، مسابقات في وادي النطرون طوال الصيف و أوقات في الشتاء ،مؤتمرات كنسية في أوقات كثيرة .باختصار الأطفال الصغار منذ الثالثة مرتبطون أغلب الوقت بالكنيسة لأنشطة دينية و غير دينية و لو حسبناها سنجد أن الأطفال علي مر حياتهم يقضون وقتاً في الكنيسة يكاد يضاهي وقتهم بالمدرسة ،و يا سلااااام!ان كانت المدرسة مسيحية أيضاً ، باختصار يكادون يخسرون تدريجياً أي فرصة لهم للخروج من أسوار الكنيسة الي فضاء الوطن.و المدارس الاسلامية في مصر التي تتحدي هيبة الدولة و تمنع المسيحين لمجرد أنهم مسيحيون من التقديم لها ،و كأنها دولة داخل دولة ، و تربيهم تماماً من الصغر علي أن كل من حولهم مسلمون حتي المدرسين.هذه المظاهر تغرس في النشئ منذ الصغر أن الدين قبل الوطن ،و أن انتماءهم الأول لشعب الكنيسة أو الأمة الاسلامية لا للوطن المصري ،و هذه هي دعامة (اقاليم الحكم الذاتي) فهذه الاقاليم تري أن الروابط العرقية و الدينية بين أفرادها أهم بكثير من روابطهم الوطنية.
و حتي العرق في مصر يتدخل في مأساة التفكك و يشكل اقاليم حكم ذاتي داخل الوطن الأم . لدينا العرق النوبي الذي يعاني من اهمال جسيم و عدم اعتراف به و معاملته علي أنه ليس بلون المصريين .عاني النوبيون طويلاً من الانغلاق و عدم طرح ثقافتهم علي عموم المصريين و عدم اشراكها معهم و لكن النوبيون أيضاً حرصوا علي البقاء ك(اقليم) منفرد يرفض أن يكون هناك زواج من خارج النوبة ، يرفض الاندماج داخل المجتمع المصري، مغلق تماماً علي نفسه .و البدو كذلك يغلقون –تماماً- علي أنفسهم و يرفضون أن يخضعوا لسلطة الدولة،و بعيداً عن عاداتهم و تقاليدهم الخاصة بهم و أفكارهم المختلفة عن أغلب المصريين يتمادي البدو في التقوقع و الانغلاق داخل قلعتهم لدرجة تحدي هيبة الدولة بعدم الخضوع لقوانينها المنظمة ،و الخضوع لأعرافهم و محاسبة السارق و القاتل و المتحرش حسب أعرافهم و كأنهم بالفعل صاروا (اقليم حكم ذاتي) . و أكاد أجزم أن من أسباب الثأر في الصعيد أن أهل الصعيد ترسب في لا وعيهم أنهم ليسوا منتمين للوطن قدر العائلة و لذلك فهم يفضلون عادات العائلة علي قوانين الوطن و الثأر العائلي بدلاً من القصاص القانوني.
كان من شأن التنوع الثقاقي و الفكري و العرقي و الطبقي و الديني للمجتمع المصري أن يزين طبيعة مصر المتنوعة دوماً في كل شيء و حتي في الحضارة ، و لكن ما جعله نقمة و قسم المجتمع الي(اقاليم) هو عدم التقرب بين هذه المجموعات. في دول كثيرة اّخري هناك تنوع حضاري و ثقافي و ديني و عرقي ،و لكن هناك روابط تربط بين مختلف الطبقات و الأفكار ،فهناك مثلاً المدراس: في مصر مدارس لكل طبقة و كل دين و كل فكر .مدارس كنسية و راهبات ،مدارس أزهرية ،مدارس اسلامية خاصة ، مدارس حكومية ،مدارس لغات ، مدارس تجريببية ، مدارس دبلومات انجليزية و أمريكية وفرنسية ،مدارس شويفات ، مدارس دولية ، كل طبقة تختار المدرسة المناسبة لها ثقافياً ثم مادياً.في أغلب دول العالم المدارس الحكومية تضم كافة أطياف المجتمع، باختصار لأن التعليم جيد ،و بذلك يتعلم الأطفال منذ الصغر أن يتعاملوا مع أقرانهم المختلفين معهم في الدين و العرف و العادات كمجتمع واحد. أيضاً هناك المناسبات الوطنية ، فرغم أننا أكثر دول العالم اجازات و أعياد وطنية ، فنحن أقل هذه الدول قدرة علي تقريب المجتمع من بعضه و توحيده في الذكريات الوطنية .و بينما تحرص جميع دول العالم علي خلق أفكار لنشاطات مشتركة لجميع طوائف المجتمع لتوحيده نتفنن باتقان في ابتكار أفكار جديدة لمهرجانات و أنشطة تناسب كل طبقة علي حدي و نحرص أن تكون تكلفتها النقدية قاصرة علي طبقات بعينها و أحياناً دين بعينه. بل و بدلاً من أن نوحد المصريين في الأعياد و المناسبات يخرج رجال الدين ليفسدوا فرحتنا ووحدتنا و يقرروا و يعلنوا أن مشاركة أتباع الدين الاّخر أعيادهم أو حتي تهنئتهم فيها لهي حرام و كفر و رجس من عمل الشيطان !
و بالطبع هذا الانقسام الطبقي و الديني المريع لهو التربة الأغصب للعنف الاجتماعي و الديني و الفتن الطائفية ،و الانقسام ،و ضياع الهوية الوطنية و القومية لحساب الهويات الدينية و العرقية و الطبقية ، ومن يدري قد نفيق ذات يوم علي انقسام مصر الي (اقاليم حكم ذاتي ) بالمعني السياسي الحرفي لا بالمعني الاحتماعي البلاغي.
أنا لا أكتب لأعزي في مجتمع تفكك و انقسم الي (اقاليم ) لكل منها تراثه و فكره و عاداته و تقاليده و أعرافه ،و لكن لكي نفكر بتمعنٍ كيف نتقارب ، و كيف نصير كياناً واحداً باختلافاتنا ، هل سننتظر ككل نصف قرن ثورة أو حرب كي نتوحد؟ يجب أن نبدأ في التفكير في طرق نحتفل بها سوياً بأعيادنا الوطنية و مناسباتنا الدينية و أفكار خلاقة توحدنا جميعاً بأدياننا و معتقداتنا و عاداتنا المختلفة ، و لنبدأ بالعمل علي تقليل الفروق بين الطبقات ،و بابتكار أساليب تقربنا أكثر ، فان أردتنا أن نقترب سنسطيع ،شرط أن نتجاوز خوفنا من بعضنا و توجسنا ، و نغسل قلوبنا من سوء الظن ، و نشرح صدورنا للاّخر في الوطن حتي لا يعود اّخراً أبداً، فكلنا في وطن واحد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق