( هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة )
كلنا نستشعرها ، نراها ،نعاني منها ، نساهم فيها .وطن كامل يبكي منها و يتألم و يمد يديه ليزيد من وطئتها ، انها (أزمة هيبة الدولة).كلنا أعنا في انهيار جدار هيبة الدولة ، كل فرد انتزع طوبة أو أكثر من الجدار ، كل فرد ساعد في انتزاع قوام هذا الجدار حتي و لو بالمشاهدة فقط .كلنا نهدم في الجدار و كلما رأيناه يتشوه و يقترب رويداً رويداً من الحطام ، بكينا و فرحنا و تألمنا و زغرطنا! و لو كنا ننتزع كأفرادِ طوبة طوبة ، فالمسئولين عن حماية الجدار هاجموه تتراً بالدبابات و المدرعات.
هيبة الدولة هي احترام سيادة القانون في كل فعل صغر أم كبر ،انها الخشية من مغبة خرق القانون ، مع الرغبة التامة في الالتزام به . كيف ذلك ؟ في كثير من دول العالم الناس تحترم القانون و تحبه و لا تخرقه حتي و ان لم يرها أحد .كيف ذلك مجدداً؟ انها التربية المدرسية السليمة التي لاتجعل من القانون مواد صماء يحفظها الطلاب و يلقونها في ورقة الامتحان ، بل تجعل منه نبضاً حياً كالقيم و المبادئ التي يتربون عليها منذ الرابعة من العمر ، و تترسخ داخل أفئدتهم مدي حياتهم ، فالطلاب يدرسون تبسيطاً مبادئ احترام القانون ، و مبادئ قيام الدستور منذ الروضة . و لا حاجة بي لعمل مقارنة مع ما يتعلمه الأطفال عندنا في هذه السن . و لكن لو نظرنا الي أولاد الشوارع و مشاهد ليلة حريق تراث مصر لما احتجنا الي المقارنة أصلاً ، فأولئك يرضعون احترام القانون و محبته و هؤلاء يرضعون الخروج عن القانون و بغضه.
هيبة الدولة ليست الخوف منها ،ليست تسلط الدولة ، انها العكس تماماً. انها دولة يخاف فيها الناس خرق القانون ؛لأنها تطبقه بقوة ،و في ذات الوقت يحبون الالتزام به ؛لأنهم يثقون أن لا أحد فوقه و أنه يطبق علي الجميع سواءاً .الدولة المتسلطة حتماً توجد بها أقلية فوق القانون ،لذلك فلا توجد بها هيبة دولة و لكن الموجود خشية دولة، و لذلك بمجرد انهيار أجهزة الترويع في الدولة تسقط تماماً. و الدليل حي أمامنا ، فالدولة في مصر كانت مخشية لا مهابة ،لذلك بمجرد انهيار أمن الدولة و الشرطة في الثورة (في ثلاثة أيام فقط) ، سقطت الدولة تماماً و معها كل مؤسساتها و علي رأسها الشرطة، و رأينا نشوة خرق القانون ، كنشوة الطالب الذي كان يضربه معلمه ثم مات المعلم ،رأينا هذه النشوة في كل شيء و أبسطها القيادة عكس الاتجاه.
هناك نماذج جلية لعدم احترام هيبة الدولة ، كعدم الالتزام مطلقاً بقانون المرور ، و التعدي علي أراضي الدولة علي مرأي و مسمع الجميع ؛كأننا في غابات بلا دولة ، أو في الصومال .و هناك نماذج لا نلحظها أصلاً مثل ضرب السارق قبل تسليمه للشرطة ، لو كنا نحترم سيادة القانون لما ضربنا السارق و لتركنا القانون يأخذ حقنا ، صور الثأر بدون قانون هي أكبر انتهاك لسيادة القانون و هيبة الدولة ، فعندما يثأر الأب لمقتل ابنه بقتل القاتل ، فنحن في الغاب لا في دولة قانون. و عندما نضرب السارق كذلك فنحن ننتهك حق الدولة في معاقبته. و حتي –في اعتقادي- ما يعرف بجرائم الشرف انتهاك لسيادة القانون يحميه القانون. فمن يقتل مغتصب ابنته أو ابنه لا يحترم القانون ، فان كان يحترمه لرفع قضية ليعاقب المغتصب. و من يقتل ابنته أو زوجته للزني لا يحترم القانون ؛ لأنه لو كان يحترمه و يريد معاقبة ابنته أو عشيقها أو زوجته لكان رفع قضية زني .و حتي الحجة الواهية بأن عقوبة الزني في مصر هينة هي أبشع صور انكار القانون ، فمن يحترم القانون يؤمن بكل مواده حتي و ان لم تتفق مع أرائه أو أفكار البيئة التي تربي فيها أو حتي دينه و ان أراد تغيير القانون يغيره بالأساليب الشرعية لا بانكاره و تصرف بما يناسب ما يؤمن به.
و ليس الأفراد فقط من ينتهكون سيادة القانون و لا يؤمنون بها ، بل أيضاً الأهم أن القائمين علي هيبة الدولة من المسئولين لا يؤمنون بها أو يحترمونها البتة، و عندي دلائل كثيرة علي هذا. أولاً مأساة مصر الحية التي تسمي (الجلسات العرفية). كيف يلجأ رجال القانون و القائمين عليه الي انتهاكه بهذه الطريقة المشينة ؟ كيف يمكنهم أن يتجاهلوا هيبة الدولة بهذا الفحش المبين؟( الجلسات العرفية) هي التي تجعل المجرمين يتجرأون أكثر و أكثر ؛لأنهم يثقون أنهم سينجون من العقاب ؛ و لأنها تجعل الرموز السياسية و الدينية التي تحضر هذه الجلسات أقوي من القانون.ببساطة كيف يمكن أن لا نعاقب مجرم أحرق كنيسة أو جزء منها أو قطع أذن مواطن أو أرتكب أي جرم جنائي ؟ كيف يمكننا ألا نعاقب راهب مجرم احتجز مواطنة ذات حقوق أو رجل دين مسلم أو مسيحي أثار الفتنة ؟ و كيف يمكن أن نكتفي ببضعة قبلات و أحضان دافئة و أكواب شاي مرصوصة في جلسة عرب؟ هل سيادة القانون و هيبة الدولة بمثل هذه الخفة؟ هل يمكن التغاضي عنهما ببساطة من القائمين عليهما؟ لو كان الأمر كذلك فهيا بنا نعود لأيام القبيلة و الغريب أننا في مصر لم نعشها قط ، لأنه منذ ما يزيد عن 7000 عام و نحن دولة بها قانون و محاكم .بمعني أدق فالنعد الي ما قبل ال7000 اّلاف عام و نعقد الجلسات العرفية بدلاً من وجع العقل الذي يسببه مجهود القانون.
نموذج اّخر مضحك للغاية هو تصريحات المجلس العسكري الأخيرة بأن كل الانتهاكات التي تعرض لها المتظاهرون بما فيها كشف العذرية أفعال فردية بلا أوامر صريحة و لذلك سيحاكم مرتكبوها. هذا نموذج حي لضعف هيبة الدولة ، فلو هذا الكلام صحيح فهذه مصيبة عظمي و دبابة ضخمة تحطم جدار هيبة الدولة.هيبة الدولة قائمة علي مؤسسات ،الجيش مؤسسة اذا تصرف أفراد من المؤسسة بهذه الجرأة و ارتكبوا مثل هذه الانتهاكات الوحشية من تلقاء أنفسهم ، فهذا يعني أن المؤسسة التي ينتمون اليها مؤسسة مهزأة ، يستطيع أي فرد فيها أن يفعل ما يشاء من وحي أفكاره . و ان كانت مؤسسات الدولة بهذه الهشاشة فوداعاً لهيبة الدولة.
و هناك أيضاً قانون الطوارئ الساري منذ عشرات السنوات حتي لم نعد نعرف ما هي الطوارئ أصلاً ، فالدولة ذات السيادة لا تحتاج لقانون طوارئ ؛لأن هيبة الدولة تستمد من القانون الجنائي الوضعي الدائم لا الطوارئ .و الدولة التي لا تستطيع ردع المجرمين باستخدام قانونها الدائم و تحتاج قانون الطوارئ دولة هشة بلا هيبة.
باختصار هيبة الدولة في مصر جدار اّيل للسقوط يسهم في اسقاطه الجميع حتي القائمين عليه و الحل الوحيد أن نعيد سيادة القانون و نطبقه بحزم علي الجميع دون استثناء فهذا سيجعل الناس تهاب القانون ، تخشاه و تحبه.مهم طبعاً أ ن نغير مناهج التعليم العتيقة ،لتغرس في الطفل منذ الروضة احترام القانون و تعلمه القانون و الدستور و كيف يحترمهما . و الأهم أن تحترم مؤسسات الدولة و المسئولين هذه الهيبة و يوقفوا مأساة (الجلسات العرفية) و يوقفوا الحجج الواهية و يتمكنوا من تطبيق القانون الجنائي المصري لا الطوارئ بطريقة رادعة للجميع عن طريق عدالة و مساواة التطبيق. و يتصرفوا ليعيدوا قوة مؤسسات الدولة و يعرفوا أن المؤسسة التي يتصرف فيها الأفراد بدون اذن القادة مؤسسة بدون سيادة ، و لا تصلح لتكون جزءأً من دولة ذات هيبة و سيادة.أما الأفراد عنما يرون قوة تطبيق القانون و عدالته حتماً ستتكون لديهم ثقة به و لكن واجبهم في كل الأحوال أن يحترموا هيبة الدولة و لا ينتهكوها بأي صورة بدءاً من احترام اشارات المرور و ليس انتهاءاً بأخذ حقوقهم تحت مظلة القانون لا خارجها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق