الأربعاء، 11 يناير 2012

اغتيال الأحلام

(هذا المقال بقلمي لا بقلم الطفلة)

وقعت عيناي مصادفة علي اعلان في جريدة حكومية ، كان صغير الحجم ، و لكنه نبهني الي جريمة عظيمة تحيا داخل مجتمعنا و وطننا اسمها (اغتيال الأحلام).صدمتني أول عبارة في الاعلان و لم أحتج لقراءة أكثر منها." حقق حلمك في امتلاك شقة........................................................"تبدو بداية طبيعية لاعلان شقق سكنية ،و لكنها لم تكن أبداً كذلك بالنسبة الي.
كيف تغتال الأحلام هكذا ؟ كيف يقضي عليها و لا يتبقي منها سوي الفتات ؟ كيف يتحول حلم شاب ممتلئ بالحماسة و جسارة الشباب و طموحاته الي مجرد امتلاك شقة ليحيا فيها ويتزوج و ان كانت صغيرة؟
فكرت في الاستراتيجية المتبعة للقتل البطء للأحلام .انها استراتيجية منظمة تبدأ منذ ظهور البرعم الأول للحلم عند الأطفال ،يبدأ بشفط الحرية منهم في الاختيار و تحديد خيارتهم ."أتريد أن تكون طبيباً أم مهندساً؟"و كأن الحياة ليس بها سوي هذان الحلمان .و حتي فكرة ربط الحلم بالعمل قمع لحرية الطفل في الحلم ، فقد يكون حلمه أن يصير رحالة أو أن يساعد الفقراء .عندما يعتاد الانسان منذ الطفولة علي تحديد الخيارات و تسلب منه حرية الاختيار فهذه هي خطوته الأولي نحوخسارة حلمه.
ثم عندما يكبر قليلاً يبدأ الأهل حوله في زرع بذرة اليأس داخله بالقول أنه لا يستطيع بلوغ حلمه.عندما يقول أنه يحلم بأن يصير مسئولاً يقال له أنه لا يستطيع ، و ان كان طالباً مشاغباً و قال أن حلمه أن يصير مهندساً يسخر الجميع منه و يقولون أنه لا يستطيع . و عندما تقول طفلة أن حلمها أن تصير شرطية يقال لها أنها لن تستطيع ذلك ؛لأنها خلقت فتاة.و عندما يحلم طفل بأن يصير رائد فضاء يعجزه الجميع و يقولون أن هذا حلم مستحيل في مصر. مؤامرة منظمة لاغتيال الأمل و بث بذور اليأس لتنمو مع نمو الأطفال كسرطان ينمو و يجعل الأحلام تتاّكل.
و يكبر الحلم مع الانسان ليجد نفسه أمام العقبات التي تقف جداراً عازلاً شائكاً أمامه . طبيعي أن توجد عقبات و لكن العقبات التي تزرع أمام الأحلام في مصر لا تستقصد تعسير الطريق و لكنها ترمي الي استئصال الأحلام.فمثلاً طفل صغير ابن لبواب حلم أن يكون وزيراً قيل له أنه لن يستطيع ذلك ؛لأنه ابن لبواب و زرعت بذرة اليأس داخله و عندما كبر وجد العقبات أمام حلمه تتشكل يوماً بعد الاّخر ، عقبات لم يتخيلها تستهدف ضغط سقف أحلامه ، ففي البداية يذاكر و يدخل كلية الاقتصاد و العلوم السياسية ليتخرج متخيلاً أنه سيلحق بالسلك الدبلوماسي كخطوة علي طريق الوزارة ،و لكنه يفشل بسبب الوساطة و بسبب مهنة والده . فيتحطم و ييأس و يصغر سقف أحلامه ليرجو أن يكون كاتباً صحفياً مشهوراً و يفشل في العمل كصحفي بسبب الوساطة و مهنة والده مجدداً علاوة علي قلة الفرص و كثرة المتقدمين ، فيصير حلمه أن يجد فرصة للالتحاق بالعمل الصحفي و لو حتي باليومية ثم يفشل و يعود اليأس من جديد ، و تيتقلص سقف أحلامه من جديد ليصير حلمه أن يجد أي عمل حتي و ان كان لا يناسب مؤهله ، و قد يفشل مجدداً في هذا الحلم البسيط و ييأس و ينهار بناء الأحلام فوق رأسه و ان نجح فسيتحول حلمه الي درجة مختلفة و هي امتلاك (الشقة) التي سيتزوج فيها ، و هنا سيجد عقبات لا حصر لها في طريق شقة أحلامه بدءاً من السعر مروراً بالمساحة و الخدمات و الأهم مرتبه الذي لن يرقي و لو بعد عقد من العمل لقسط الشقة.
و سواءاً حصل عليها أم لا فحلمه القديم اغتيل بالفعل و تقلص مع العقبات رويداً رويداً حتي أنه قد لا يجد وقتاً وسط لهثه حول الحياة اليومية الممتلئة بالعقبات لتذكر ماذا كان حلمه ذات يوم.
أعتقد أن مئات الاف الشباب اغتيلت أحلامهم بهذه الطريقة. تحديد اختيار ،احباط ، عقبات من الفساد و الوساطة و الفقر ،خفض بطء لسقف الأحلام ثم ضربة قاضية و قاسمة يجب أن تأتي بدون انذار ذات يوم بفقدان و نسيان الحلم القديم.
و الجانب الاّخر و الأهم من عملية اغتيال الأحلام المنظمة هي امتصاص مشاعر الحماسة و الارادة و الطموح من داخل الأطفال و الشباب . مهما كانت هناك عقبات ، و مهما كان بلوغ الحلم أقرب للمستحيل، و مهما كانت الظروف العسيرة جدراناً محصنة و محمية بأعتي الأسلحة و الدروع ، فالمشاعر الصادقة البريئة القوية المؤمنة من الحماسة و الجسارة و التحدي و الاقدام يمكنها دحر المستحل و تهشيم الجدران و بلوغ الأحلام . و هناك من فعلوها ،هناك من بلغوا أحلامهم رغم صعوبتها و امتلاء الطريق اليها بالأهوال ، و رغم سخرية و احباط جميع من حولهم. هؤلاء امتلكوا تلك المشاعر و غذتهم ارادتهم و حماستهم و ايمانهم لبلوغ المستحيل و تحدي كل شيء و الانتصار.
و لكن نحن للأسف نفتقد صناعة المشاعر. المشاعر صناعة صعبة و في غاية الخطورة .كل دولة تقدمت قدمت لمواطنيها أعمال أدبية و أشعار و أفلام و مسلسلات و رسوم متحركة و برامج مهمتها الأساسية صناعة المشاعر، عملها الرئيسي بث الاصرار ،و التصميم و الحماسة داخل النشئ و تحفيزهم لبلوغ أحلامهم. بل ان أغلب الأغاني (حتي الأغاني العاطفية) تحوي كلمة (أحلام) و تكررها عدة مرات . و شخصيات أبطال الأعمال الشيقة التي يتابعها الشباب ليسوا شخصيات خارقة قدر كونهم شخصيات لديها حلم و اصرار و تصميم و كلما تسقط أو يهزمها عدو تقوم من جديد لتحقق النصر في النهاية حتي و لو بعد هزائم عدة.
الكتاب ليسوا حمقي ،بل لديهم استراتيجية منظمة لايصال رسالة الاصرار و الارادة و السعي وراء الحلم حتي النهاية.هذه رسالتهم هي الرسالة الأثمن لنمو أي وطن ، لأنه ان اّمن الفرد بهذه الرسالة لن تغتال أحلامه مهما كانت العقبات و مهما سخر من حوله منه و عملوا علي احباطه.و لكن للأسف أدباؤنا الأفاضل الكرام –هذه الأيام- يحبذون النهايات اليائسة الكئيبة و الشخصييات الفاشلة التي تقنط من بلوغ أهدافها بيسر، و يسمون النهايات التي تبث اليأس و تجعل المشاهد يحبط و يخسر أمله في المستقبل نهايات واقعية!
في اعتقادي الصراط الأمثل لمحاربة (اغتيال الأحلام) هو تقديم الحماسة و الارادة و الأمل في الدراما بكافة صورها و في الأعمال الأدبية بكل أنواعها و اظهار أبطال يحاربون مهما كانوا عاجزين و مهما كانت التحديات محال تخطيها و ينجحون في النهاية ، و أن يصير المجتمع كله حريص علي تشجيع أفراده و دفعهم قدماً نحو تحطيم المستحيل مهما كانت العقبات. و تذويب هذه العقبات المشينة من الوساطة و الفقر و الرشوة و الفساد.و جعل تحفيذ الشباب علي أحلامهم مشروع قومي تتبناه الدولة بكل مؤسساتها .و مثل بقية دول العالم نري أحلام الطفل منذ أول بذورها و نشجعه علي بلوغها و نوفر له التدريب و التعليم المناسب لحلمه منذ نعومة أصابعه و نفعل ما تفعله اليابان بجعل المدرسين يراقبون الأطفال منذ الروضة و يراقبون ميولهم و أحلامهم و يدونها و يوفرون لهم ما يناسب سنهم من مبادئ الخبرات و المعلومات المرتبطة بميولهم و يدفعونهم نحوها ، حتي ينمو الحلم معهم قوياً و معه أمل لا يأس ، حتي لا يغتال ذات يوم و لكن ينمو و ينمو و يتألق و يتحقق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق