( هذه المقالة بقلمي لا بقلم الطفلة)
تنقسم الإمبراطوريات حول العالم إلى قسمين إمبراطورية سياسية أو إمبراطورية اقتصادية، وقد جرت العادة أن تبنى الدولة إمبراطوريتها الاقتصادية قبل إمبراطوريتها السياسية، فمثلاً الولايات المتحدة لم تبدأ في إظهار نفسها كإمبراطورية سياسية إلا بعد أن أصبحت الاقتصاد الأقوى في العالم وبعد أن دافعت للإمبراطورية السابقة عليها (أوروبا) في الحرب العالمية الثانية. تحرص الصين الآن على البقاء محايدة قدر استطاعتها، وعدم التدخل في أي دولة وإظهار شبح إمبراطوريتها العسكرية قبل أن تضمن تماماً في الأربعين عاماً القادمة أنها صارت وبلا منازع الإمبراطورية الاقتصادية الأولى.
طالت مقدمتي عن الإمبراطوريات السياسية والاقتصادية لرغبتي في القول أنني أتمنى أن نصير كلتاهما، ولكني أؤثر أن تبدأ مصر بالعكس! أي أن تبدأ في بناء إمبراطورية اقتصادية بعد بناء أو على الأقل وضع لبنة إمبراطوريتها السياسية، أنا أؤمن إيماناً يقيناً بأن مصر لا تستحق أن تكون رقم اثنين في العالم، بل رقم واحد، وواحد في كل شئ.
بناء الإمبراطورية السياسية لمصر لا يعنى أن تتوحش مصر وتحتل، وتكون لها علاقات قذرة بدول العالم. ولكنها تعنى أن يكون اسم مصر مذكوراً على لسان كل شخص في كل بلد صغير في هذا العالم، تبنى النظام السابق على الثورة رؤية تقول أن مصر يجب أن تتقوقع على نفسها، وخسرنا علاقاتنا بدول حوض النيل ونجمت عنها كارثة من يعلم كم السنوات سنحتاجها لحل معضلتها، تبنى النظام السابق سياسة (خلينا في حالنا) أي التشرذم إلى أقصى درجاته، وأن نترك إسرائيل على حدودنا تعبث كما تشاء، فهي خارج خطوط الطول ودوائر العرض المصرية !
ولكن بناء إمبراطورية سياسية أخلاقية لمصر يتطلب بشكل أساسي أن تكون مصر حاضرة في كل شبر ليس في العالم العربي وحسب، ليس في أفريقيا وحسب، ليس في الشرق الأوسط وحسب، ولكن في العالم بأكمله. ما صنع للولايات المتحدة جبروتها حتى قبل الحروب كان أنف الولايات المتحدة المزروع في كل شبر من أراضي المعمورة.
نحن بلا علاقات سياسية حقيقية بأي دولة في آسيا، أفريقيا، أو أمريكا اللاتينية، كل ما يعرفه - حتى المثقفون – لا رجل الشارع عن آسيا مثلاً هو نجاح النمور الاسيوية و ماليزيا و أتدونيسيا، كل ما يعرفه – حتى المثقفون – عن أفريقيا هو أنهم سود ويعانون من الفقر، كل ما يعرفه – حتى المثقفون – عن أمريكا اللاتينية لا يتخطى إطلالة شافيز دعماً للقضية الفلسطينية.
أما عن أهل السياسية، فهم يكتفون في علاقتنا مع الصين بكوننا معرض دائم للمنتجات الصينية، كل ما يربطنا بحوض النيل قبل الأزمة الأخيرة كان عضوية ورقية في الاندوجو، كل ما يربطنا بكل دول أمريكا اللاتينية هو سفاراتها المفتوحة في مصر !.
كل هذا كان - بالنسبة إلى مصر المستقبل- ماضِ، ولا يجب أن يستمر أبداً. يجب أن تكون مصر في كل مكان، اسمها مردد على لسان الأفراد - لا الحكومات – في كوريا في السلفادور، في كينيا، في ألاسكا، في أسبانيا، حتى ولو اقتضى الأمر أن يذكر اسم مصر في الاسكيمو.
هذا هو معنى صناعة إمبراطورية سياسية حقيقية لمصر. ربما يقول الكثيرون لماذا؟ ما الذي سيعود عينا من وراء – وجع القلب هذا كله ؟- سأجيب هذا السؤال بالطبع ولكن بعد السؤال الأصعب وهو كيف يحدث هذا ؟ " كيف تكون مصر على لسان الجميع ؟" "كيف تبنى مصر هذه الإمبراطورية السياسية لها؟".
كيفية بناء الإمبراطورية السياسية لمصر ؟
أ- السياسة الخارجية لمصر :
ما يجعل الولايات المتحدة اسماً متردداً في كل مكان في العالم، هو دورها بطريقة أو بأخرى في أي نزاع صغير يدور في العالم، دورها في الصراع الكوري، دورها في الصراع العربي –الإسرائيلي، دورها غير المباشر في الصراع السوداني، وفي الصراع الهندي – الباكستاني، ودورها المزيف في صراعات الشعوب ضد الحكام، سواء فيما يعرف بـ "الربيع العربي"، أو فيما جرى في صراع الحسن وتارا وجبابجو، أو في الصراعات الأثنية والعرقية والدينية والكلام الزائف عن حماية حقوق الإنسان الذي تضايق به الصين في لقائها الأخير بإقليم التنت في الصين.
نحن وضعنا مختلف، نحن لن نكون منحازين لأحد، في كل ما سبق للولايات المتحدة انحياز واضع أو خفي لطرف ضد آخر، لكن مصر ليس لها انحياز في أي صراع لطرف ضد آخر؛ لأن مصالح مصر ليست بتعقيدات مصالح الولايات المتحدة، ما ألمح إليه هو دخول مصر على الخط في كل الصراعات التي لا دخل لها فيها - كسراً لأحد قواعد السياسة الخارجية - ، ولكن سيكون تدخل مصر تدخلاً حيادياً في كل هذا، فمثلاً سيكون لمصر محاولة وفاق بين الكوريين ولا ننسى أن أول أمين عام للأمم المتحدة يزور كوريا الشمالية كان بطرس غالي المصري. مثلاً يكون لمصر دور في تحسين العلاقات الهندية الباكستانية من مدخل العلاقات الإسلامية – الإسلامية.
قد يجادل بعض السياسيين بأن هذه مخاطرة ومجازفة شديدة، ولكني أرى أنها ليست كذلك، ففي النهاية سنكون طرفاً لا مصلحة له، وحتى لو فشلنا في الإصلاح سنأخذ واجهة جيدة لدى الطرفين، كطرف ثالث لا رغبة له سوى السلام بين الطرفين.
ولن يقتصر دور الإمبراطورية المصرية على الصراعات، بل على المشكلات أيضاً، فمثلاً دولة كالصومال " عربية وأفريقية" تعانى الآن من جفاف يهدد نصف السكان.. فبإمكان مصر أن تظهر بمظهر أفضل إن خرج من خارجيتنا من يدعو دول العالم للمساهمة في إنقاذ الصومال من الجفاف ونبادر بالقليل من الدعم الذي توفره مصر في ظروفها الراهنة، ولن يكلفنا هذا الكثير لكنه سيكون صناعة وبناء لمكانة دولية وأفريقية لمصر.
المقصود هنا هو أن تكون مصر دائماً ظاهرة في أي موضوع يظهر في هذا العالم. فلماذا دعمت الولايات المتحدة هايتي اسما على الأقل؟ سبب أساسي هو ترديد اسم الولايات المتحدة داخل هايتي، هذا ما نريده بالضبط .. أن يكون اسم مصر مردداً في كل مكان في هذا العالم، ولكن عكس الولايات المتحدة مردداً كجهة حيادية تتمنى السلام في العالم وتقف أمام ما يخالف المبادئ وتدعم كل الدول حين تتعرض للمشكلات.
الأمر هو لعبة رسم صورة ذهنية لمصر في العالم، رسمت الولايات المتحدة شكل الدولة التي تدعم الديمقراطية، رسمت أوروبا قبل ذلك شكل الدول التي تتبنى التنوير، ورسمت تركيا الآن في الشرق الأوسط شكل النموذج الإسلامي المعتدل للدولة.
قد يجادل أيضاً بعض السياسيين أن المقارنة بالولايات المتحدة مجحفة لأننا ما نزال دولة نامية، وتلك النظرة أرفضها وبشدة فكلما احتقرنا أنفسنا هبطنا وكلما اَمنا بمكانتنا آمن العالم بنا. وأيضاً فلننظر إلى تركيا وهي دولة صاعدة بقوة، كيف تبنت نظرية تصغير المشكلات وكيف تبنت رؤية العلاقات بالعالم، كيف تتدخل تركيا بشكل أخلاقي مقبول لا يشعر الدول بالتدخل السافر كما تفعل الولايات المتحدة ولا يجعلها أيضاً تتشرذم في مكانها فلتركيا دور في الصراع العربي – الإسرائيلي، وفي الوضع السوري وفي غيرها من الملفات رغم أنها لا تحظي برفض من أي دولة بل على العكس حصدت تأييد واسع النطاق، وصار اسمها متردداً في كل بقاع المنطقة حتى أنه في السنوات العجاف الأخيرة قيل أن المنطقة يحكمها ثلاث قوى غير عربية " تركيا، إيران، إسرائيل" ولكن ولحسن حظنا هبطت هذه الرؤية وعادت مصر في الثورة لتطيح بإيران وإسرائيل وتستعيد جزء من دورها الريادي.
وهذا ما أريد الوصول إليه، صناعة أنف لمصر في كل مكان بالعالم، أنف محبوبة كأنف تركيا، لا مرفوضة كأنف الولايات المتحدة. لا نريد أن نتقوقع على أنفسنا مرة أخرى بل نريد أن نتسع وأن يكون لنا دور كفاعل خير في كل الصراعات حتى في جزر القمر، زيمبابوي، باكستان، كوسوفو، بيلاروسيا، وفي كل المشكلات سواء ديون اليونان، زلزال اليابان (الذي لم يكلف وزير الخارجية نفسه بإصدار بيان واضح يبين فيه تعاطفنا)، جفاف الصومال وغيرها، هذه لعبة تتطلب سياسيين من نوع خاص، سياسيين يفهمون أن مصر تستحق أن تكون ذات دور عالمي لا إقليمي.
ب- النموذج المصري " الثورة المصرية":
لسنوات ظل النموذج الفرنسي نموذج مهيمن على فكر حركات التحرر في العالم كله بسبب مبادئ الثورة الفرنسية الثلاثة. أسرت معظم قادة التحرر والتنوير حتى في عالمنا العربي بها، مثل: رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وغيرهم. وساهم وهج المبادئ العظيمة للثورة الفرنسية في بناء الإمبراطورية الفرنسية.
فمعظم قادة التحرر والتنوير في العالم الثالث تأثروا بصورة أو بأخرى بمبادئ الثورة الفرنسية التي نقلوها للعالم، وهذا جعل النموذج الفرنسي براقاً لكثير من الحالمين في العالم الثالث وبدأ في مصر مشروع " قطعة من أوروبا " نتيجة لذلك وهذا اسم رواية لرضوى عاشور تناولت فيها هذا المشروع الضخم.
وبعد ذلك جاءت سنوات شكل فيها النموذج الأمريكي البراق للديمقراطية والحرية الزائفتين حلماً ونموذجاً لكثير من مفكري العالم الثالث الذي عاني الأمرين من السلطة الغاشمة والمجتمع الديكتاتوري الأبوي، وساهم هذا النموذج في صناعة صورة زائفة للولايات المتحدة في العالم، وجعل الكثير من المثقفين حتى ينحازون للعولمة أو لأمركة العالم حتى أسقطت الولايات المتحدة هذا النموذج بنفسها عندما بدأت التوحش وإبراز الآلة العسكرية الغاشمة في حربي العراق وأفغانستان وبذلك سقط وهج النموذج الأمريكي.
ولم تكن مصر بعيدة عن صناعة النموذج البراق للعالم، فقد قدم النموذج الناصري الإلهام لحركات التحرر في العالم الثالث بأكمله، حتى أن فيدل كاسترو اعترف أن النموذج الناصري مثل إلهاماً له ليقوم بتحرير كوبا. وبنت مصر إمبراطورية سياسية حقيقية بسبب وهج النموذج الناصري، حيث صار هناك ذكر واضح لمصر في كل دول أفريقيا في كفاحها ضد الاستعمار، وفي دول آسيا، وأمريكا اللاتينية وحتى في الدول المحتلة نفسها كأوروبا والولايات المتحدة، وصارت مصر دولة من محددات الوضع العالمي، وصارت دولة عظمى سياساَ رغم أنها كانت في طور البناء الاقتصادي، وجعل كل هذا اسم مصر يتردد على لسان الكثيرين في كل بقاع العالم.
وبعد ثورة 25 يناير اكتسبت مصر فرصة منقطعة النظير لإعادة بناء إمبراطوريتها السياسية، فبإمكاننا بناء نموذج قائم على مبادئ الثورة المصرية العظيمة " كرامة، حرية، عدالة اجتماعية". هذا يتطلب بالطبع أن ننجح في تحقيق مبادئ الثورة أولاً، ولا ننسى أنه في أثناء ثورتنا تردد اسمنا في كل بقاع العالم، حتى أن فيديو من فيديوهات اليوتيوب الشهيرة كان عن طفلة يابانية تتحدث عن الثورة المصرية! وحتى أن صديقة لي ذكرت أن مدربة جنوب أفريقية جاءت مصر سألتها كثيراً حول الثورة المصرية وقررت أن تفتح حساب على الفيسبوك بعد ذلك! .
تلك العالمية المصرية التى صنعتها ثورتنا ستكون مدخل نموذجي لبناء إمبراطوريتنا المصرية حيث ستصنع وهج خاص للنموذج المصري بشعارات الثورة الثلاث. وعلى دبلوماسيتنا أن تبدى في مواقفها الخارجية دعماً لمبادئ الثورة مثل الوقوف ضد تعسف البنك الدولي والرؤية الرأسمالية المجحفة التي تطيح بأبسط مبادئ العدالة الاجتماعية، مثل إبداء دعم لكافة حركات التحرر في العالم مع التأكيد على حق كل دولة في عدم التدخل في شئونها الداخلية.
وهذا النموذج المصري البراق سيكون له عميق الأثر في بناء واجهة وصورة ذهنية براقة لمصر وسيجعلها نموذج ودولة مؤثرة على الصعيد العالمي تتطلع إليها كل دول العالم بل لربما مستقبلاً عندما تكون الصين الدولة الأولى يكون من فرص إطاحة مصر بالصين وهج حلم الحرية المصرية لدى الصينيين الذين يعانون من الديكتاتورية الغاشمة.
جـ - القوة الناعمة:
تحدث أ/ أحمد المسلماني في محاضرات الطبعة الأولى عن عالمية مصر والقوة الناعمة، وقال أنه يرى أن الأزهر ودعم الإسلام سيكون مدخل مصر للعالمية، ومع إدراكي التام وإيماني بدور الأزهر والكنيسة المصرية كواجهة هامة دينية عالمية لمصر، ولكني أرى أن مكانة مصر يجب أن تكون أرحب بكثير من دور الأزهر والكنيسة. بل يجب أن تكون قوتها الناعمة أشمل بكثير، وكما فعلت في هذا المقال سأذكر دور القوة الناعمة في بناء الإمبراطورية السياسية لعدة دول.
لدينا أولاً اليابان، تعانى اليابان من تقييد شديد لحركتها السياسية، رغم كونها الإمبراطورية الاقتصادية الثالثة في العالم بعد الولايات المتحدة والصين، ورغم أنها كان لسنوات طويلة رقم اثنين في العالم. ويدرك السياسيون اليابانيون أن الولايات المتحدة ترفض رفضاً باتاً أن يكون لليابان أى دور محوري حقيقي خارج دائرتها الضيقة في شرق آسيا.
ومع ذلك فقد نجحت اليابان في تكوين إمبراطورية سياسية تقتحم عقلية ووجدان الفكر الأمريكي والأوروبي" كيف؟" بالرسوم المتحركة! سيضحك كثير من الذين تأثروا بنظرنا المتخلفة للطفل وللرسوم المتحركة، ولكن من درس من الأمريكيين تأثير الرسوم المتحركة اليابانية على الجيل المراهق في الولايات المتحدة دق ناقوس الخطر، بل بلغ بالبعض حد أن اليمين الأمريكي خرج لينذر من انتشار العقيدة اليابانية في النشء عبر الرسوم المتحركة.
وأصبح " الانمي" الياباني صناعة لإمبراطورية اليابانية، لدرجة تردد اسم اليابان وثقافتها عبر الانمي في أوروبا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية وإسرائيل، و مؤخراً في الدول العربية، وبخاصة الخليج العربي. ومن لا يصدقني يبحث عن عدد منتديات الانمي الأسطوري على الشبكة العنكبوتية، لدرجة أن هناك مؤسسات شبابية تنشأ على الشبكة اليوم لتعليم اليابانية ولبناء قاعدة عريضة من مترجمي الرسوم المتحركة لكافة اللغات !.
أما عن الولايات المتحدة فقد صنعت هيمنتها كلها عن طريق صناعة النموذج الأمريكي كأسلوب حياة في كل مكان في العالم. المشروبات الغازية، المطاعم الأمريكية، هوليود، الملابس الأمريكية، الدبلومات الأمريكية، الأغاني والألحان الأمريكية. حتى الدول المحاربة للولايات المتحدة لا تستطيع إنكار أنه على الأقل عموم الشعب يرتدي بناطيل جينز ويحمل الأفلام الهوليودية من الشبكة العنكبوتية !.
والمواطن العادي الذي لا شأن له بالسياسة في العالم، يكفيه أسلوب الحياة الأمريكي الذي أطاح بحياته التقليدية ليذكر الولايات المتحدة ليل نهار، ولتصبح بشكل أو بآخر الولايات المتحدة ساكنة لوجدانه. وبذلك صنعت الولايات المتحدة إمبراطوريتها السياسية لتصل إلى المواطن العادي في كافة دول العالم.
ودور مصر هو صناعة قوتها الناعمة، إعادة السينما التي كانت يوماً "هوليود الشرق"، فتح مطاعم للمأكولات المصرية في كافة دول العالم، وبصناعة ملابس مستمدة من التراث الإسلامي والفرعوني والفلاحي وإدخالها في خطوط أزياء عالمية، وبتقديم كتب مترجمة ذوي مستوَ راقِ يقدم للقراء، باختصار صناعة ثقافية مصرية خالصة مصدرة لكافة دول العالم، فالثقافة هي الشئ الذي يصل للمواطن البسيط وهى التي تجعل اسم مصر متردد على لسان الفرد لا الحكومة في الخارج، بل وهي الطريق لنشر اللهجة المصرية في دول العالم، ففي عصر السينما الذهبي كانت اللهجة المصرية هي اللهجة المهيمنة على كل لهجات العرب.
وبهذه الثقافة والقوة الناعمة سيكون تغلغل الإمبراطورية السياسية المصرية لا للسياسيين وحسب، بل وللأفراد، ولا ننسى أن الثقافة ومنتجاتها يجب أن تحتوى قيم النموذج والحلم المصري، فكتب القرن العشرين حملت قيم الحلم الأوروبي، وأفلام هيوليود حملت قيم الحلم الأمريكي، والرسوم المتحركة حملت مبادئ الشرف والحلم الياباني، ويجب أن تحمل الأفلام والرسوم المتحركة والأغاني والكتابات المصرية قيم الحلم المصري لتنشر وهج النموذج المصري في كافة بقاع العالم.
لماذا كل هذا ؟
سيسأل الكثيرون لماذا " وجع القلب ؟ " ولماذا نتعب أنفسنا بإقحامنا في مشاكل وصراعات تفصلنا عنها نصف الكرة الأرضية بأكملها؟ ونحن نحتاج إلى بناء وتنمية أنفسنا وحل عدد من الصراعات داخل مصر وعلى حدودنا، ولدينا من الملفات ما يكفينا ويفيض. وهناك في الحقيقة العديد من الأسباب التي تدفعنى إلى تبنى وجهة النظر التي أوردتها في مقالي حول صناعة الإمبراطورية السياسية وجعل اسم مصر يتردد في كل مكان وصناعة صورة ذهنية لنموذج مصري براق للعالم أجمع.
أولاً: بناء اقتصاد قوي لمصر:
سيساهم وهج النموذج المصري في دعم الاقتصاد المصري بطرق مباشرة وغير مباشرة، فأولاً عندما يكون لنا علاقات قوية مثلاً بكلا الكوريتين في محاولة حيادية لإصلاح علاقاتهما سيكسبنا هذا مكانة لدى كلتيهما ستجعلهما مستعدتين لقبول إدخال صادراتنا بدون جمارك أو تخفيضها، وسيشجع رؤوس الأموال من البلدين على الاستثمار داخل مصر. علاوة على أن هذا سيجعل هاتين الدولتين مستعدتين لتوفير دعم فني أفضل لنا وإن احتجناه. وهذا النموذج يسرى على كل الدول التي سنحل صراعات داخلها أو سنعامها بمواقف سياسية واضحة وأخلاقية، وفي الوقوف على الأقل – دبلوماسياً – بجوارها في وقت الكوارث والأزمات التي تحدث بقوة في هذا العقد.
ونحن دولة تبنى اقتصادها من الصفر صناعياً تقريباً إذا ما وضعنا نصب أعيننا هدف الإمبراطورية الاقتصادية لذلك، فنحن نحتاج استعداد كل الدول لدعمنا اقتصادياً انبثاقاً من مكانتنا السياسية الهامة.
ولا ننسى أننا كبلد سياحي كلما زاد وهج النموذج المصري وكلما تردد اسم مصر أكثر في العالم كان هذا بمثابة دعاية مجانية لنا لجذب السياح بشكل أكبر الذين لن يكون هدفهم فقط زيارة الآثار أو الشواطئ، وإنما أيضاً زيارة البلد التي تمثل لهم الحلم والنموذج البراق. وهذا ما يجعل الولايات المتحدة تستقبل سياح برغم أنها بلا قيمة تقريباً أثرية أو حضارية.
إن النموذج المصري العالمي دعاية مجانية لمصر، في وقت يقوم فيه اقتصاد العالم بأكمله على الدعاية.
ثانياً: دعم لموقف مصر:
نحن كنا لا كمصريين وحسب بل وكعرب أيضاً نستجدى العطف والدعم لقضايانا من الغرب المنحاز أصلاً ضدنا في فترة ما قبل الربيع العربي، ولكن اليوم يجب أن نكون أقوى ونلقى بالغرب وراء ظهورنا، لأنه في كل الأحيان لن يدعمنا، لأن مصلحته لن تكون أبداً في دعمنا، وأن ننظر لدعم بقية العالم لنا، نطلب دعم آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ومنظمات المجتمع المدني في كل مكان حتى داخل الغرب نفسه.
ولكي يحدث هذا ليدعمنا العالم بأكمله عدى الغرب المنحاز، يجب أن نكون ذوي أهمية لدى هذا العالم، مشروع بناء إمبراطورية مصر السياسية وعالمية مصر، سيكفل دعم معظم شعوب العالم لنا، فلما نكون داعمين لكل الدول في مشكلاتها، وواعين محايدين للصلح في كل الصراعات القاسية في هذا العالم، ولما تكون أفكارنا وقيمنا ونموذجنا المصري وثقافتنا حاضرة لدى الأفراد قبل الحكومات في العالم، مما لا شك فيه أننا سنكتسب الدعم بشكل أو بآخر، بدلاً من أن تظهر مصر في ملف حوض النيل كالدولة المفترية التي تحرم العطشى من المياه سينظر العالم إلى حقيقة أن مصر تعانى من الفقر المائي أصلاً، بدلاً من أن تظهر فلسطين كدولة تضرب أمن الأطفال الإسرائيليين سيكون لنا مصداقية عندما نظهر حقيقة الصراع العربي- الإسرائيلي للعالم، سنحشد دعماً حقيقياً لنا في ملفات مختلفة نحتاج فيها دعم العالم.
فلنتخيل لو تمكنا من أن نكون نموذجاً محبوباً في العالم على رأس النماذج البراقة في كافة دول العالم، وصوتت كل دول العالم في الأمم المتحدة لقرارات تدعمنا أو في مجلس الأمن وواجهنا بفيتو أمريكي وحيد ضد قضايانا العادلة، ألن نكون ناجحين في إحراج الولايات المتحدة وإسرائيل؟
ألن تفكر الولايات المتحدة ألف مرة قبل الفيتو، وتحاول بشتى الطرق الحفاظ على ماء وجهها أمام العالم؟ وحتى وإن لم تفعل ألن يظهر العالم بأكمله تعاطفه معنا واستعداده لدعمنا سياسياً واقتصادياً، ولربما إلى مقاطعة إسرائيل والولايات المتحدة؟ بإمكاننا إن صرنا نموذج أن نصير دولة عظمى سياسياً، وبإمكاننا بذلك أن نفرض العزلة على أعدائنا وعلى رأسهم الولايات المتحدة وإسرائيل وإخراج وجههم الحقيقي للعالم.
الهدف الحقيقي لتلك اللعبة الخطرة هو خلق النموذج المصري، الذي سيكون المفتاح الحقيقي لحشد دعم حقيقي لكل القضايا المصرية، وأيضاً سيكون هذا النموذج مفتاحاً لجعل حتى أعدائنا مستعدين للحوار معنا والتنازل، ولحشد المزيد من الأصدقاء، لنلاحظ أن الثورة المصرية كان سبباً في بداية مبدئية لاستعداد دول الحوض لتقبيل رؤيتنا لقضية المياه والاستماع إلينا.
ولا ننسى أن هذا النموذج المصري سيستهوى الشباب والنشء بشكل خاص عندما نلعب على وتر القوة الناعمة، وحينها سنبني جيلاً ناشئاً مبهراً بنا ولديه ولاء باطني لمصر في كافة دول العالم، وفي المستقبل سيكون من هذا الجيل قادة لدولهم، وهؤلاء القادة لن يقفوا أمام مصالح الدولة التي شكلت لديهم النموذج والحلم منذ صغرهم. وهذا هو ما كان يفعله تحتمس الثالث " نابليون الشرق" عندما كان يعلم أمراء الدول في مصر حتى عندما يكبرون يحملون الولاء الحقيقي لمصر ربما كوطنهم الثاني وربما كوطنهم الأول.
ثالثاً: الإمبراطورية المصرية:
ذكرت في أول مقالي أن الإمبراطوريات إما سياسية أو اقتصادية، (فلم تعد هناك إمبراطورية عسكرية بالمعنى الدقيق للكلمة في عالمنا اليوم)، وما أريده لمصر أن تكون دولة عظمى وأن تحكم العالم. ومما سبق ذكرت دور عالمية مصر في دعم اقتصادنا وبنائه لنصير إمبراطورية اقتصادية. وذكرت دور عالمية مصر في حشد الدعم الحقيقي لمصر سياسياً وفي قضاياها من قبل العالم أجمع حتى وإن خرجت الولايات المتحدة وإسرائيل ظاهراً وأوروبا باطناً عن الإجماع العالمي.
وببناء اقتصاد حقيقي وحشد الدعم السياسي وصناعة النموذج المصري يكون بناء الإمبراطورية المصرية. في كتابه الأخير قال " فريد زكريا" المفكر السياسي الأمريكي من أصل هندي أن حكم العالم في المستقبل سيكون بامتلاك الأفكار والطاقة، وقد تحدث أ/أحمد المسلماني في حلقات الطبعة الأولى حول رؤية فريد زكريا، ومع أن الطاقة ليست موضوع المقال، فالأفكار هي صلب الموضوع.
فالنموذج المصري الذي سنبنيه غير عالمية مصر وغير الثقافة والمواقف السياسية والسياسة الخارجية وقوتنا الناعمة وثقافتنا يلخص الأفكار التي سنصدرها للعالم، والتي سنحكم بها العالم.
ختاماً.. أود أن أقول أن أحلامنا في مستقبل مصر يجب أن تكون بلا سقف، تشرذمنا كثيراً دفعنا ثمناً باهظاً لذلك لسنوات طويلة، من يريد أو تريد بناء مستقبل حقيقي يجب أن تضع أو يضع نصب العين أن مصر لا يجب أن تكون رقم اثنين، حلمي أن تحكم مصر العالم بقيم وبمباديء حقيقية، أؤمن أن السياسة بإمكانها أن تكون أخلاقاً، ولا أصدق أبداً أنها فن الممكن بل هي فن المستحيل.
لكي نبني إمبراطورية مصر الحضارية النبيلة علينا أولاً أن نصير نموذجاً حقيقياً للحلم الوطني النبيل، وأن نقف دائماً كقوة عظمى حيادية في دور محوري في المنطقة، وفي العالم أجمع. هذا المقال يبين طريق وصولنا إلى العالمية وإلى أن تكون مصر مذكورة على لسان كل فرد في هذا العالم، وأن تكون قوة عظمى سياسياً، لكي تصبح ذات يوم قوة عظمى اقتصادياً ثم بلداً تحكم العالم.
المراجع:
أ_ محاضرات الطبعة الأولي لأحمد المسلماني.
ب- برنامج الطبعة الأولي لأحمد المسلماني.
ج- رواية ( قطعة من أوربا) لرضوي عاشور.